أقل من شهر هو الفارق بين مولد “سيد درويش” و”محمد القصبجي” 1892، والقصبجي وأحد من كبار من جددوا وطوروا الأغنية العربية في تاريخها، وخاصة الطقطوقة والمنولوج، أصحبت ألحانه أشهر منه هو شخصيًا، بعكس رفيقه في السن والمجال سيد درويش.

 قد أقر معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية آرائه حول المقامات العربية وعلاقتها ببعض واستبعد كل ما يخالف هذه القرارات، بعد جلسة مناقشة في المعهد، وفي عام 1921 وفي المقابلة الثانية بين العملاقان درويش ومحمد القصبجي، حدثت مناقشة نظرية بينهم حول المقامات، وأقتنع درويش في نهاية الجلسة بكلام رفيق المقامات القصبجي.

للحديث عن محمد القصبجي أو ألحانه، نحتاج أيامًا وليالي، لذلك في هذا المقال سنتحدث عن 6 ألحان له، 6 فقط، ربما لا يربط بينهم رابط موسيقى محدد أو مقامًا واحد، ولكنه الزمن والجمال، رابط خاص بالقصبجي، وبصمته الواضحة في تاريخ الأغنية، هنا يعلن القصبجي نفسه الصانع، من يحرك الزمن ويسبح في الجمال.

سنرى في الألحان القادمة محمد القصبجي وهو يستغل كل المساحات الممكنة في الأصوات الملحن لها، سنرى الصوت يسبح في فضاء اللحن بكامل حريته، أو هكذا تظن، ولكنه مقيد باللحن بأمر من القصبجي.

للقصبجي فخر البدايات وعظمتها، فهو بجانب تطويره القالب اللحني للطقطوقة، ساهم وبقوة في ظهور فن المنولوج وهو مستوحى من الأوبرا الإيطالية، وكأن المنولوج هو ثورة على القالب اللحني للطقطوقة، ظهر منذ 1915، ولكن في عام 1928، ظهر أهم لحن في عالم المنولوج على يد محمد القصبجي ومن نظم أحمد رامي، وغناء أم كلثوم في بدايتها.

صنع محمد القصبجي عملًا فنيًا كاملًا، أختار القصبجي شكل المنولوج كي يزخرف به كلام رفيق دربه رامي، ولكنه ربما أراد أن يعبر عما بداخله هو أيضًا، فاختار مقامًا ذو خصوصية سرية، جديد على الموسيقى الشرقية؛ مقام “الماهور”.

سترى أم كلثوم وكأن صوتها يعرج للسماء، ليرقص فترتعش أطرفك وربما قلبك أيضًا، تصعد وتهبط بكل مرونة وسلاسة، لم يترك محمد القصبجي مساحة في صوتها ألا وأحسن استغلالها داخل اللحن، ومع صوتها ينخفض صوت الموسيقى، تبقى حنجرة الست آلة موسيقية، يعرج الكلام ملحنًا، وكأنه قادم من كهف، وربما من السماء، كل ذلك كان تحت قيادة وإشراف محمد القصبجي، ولا تنسى إن ذلك في بدايات كوكب الشرق، للقصبجي أجران، أجر اللحن، وأجر الأداء، لتتمكن أم كلثوم من أداء المنولوج بكل هذا الجمال والإحساس والدقة.

أحدثت أغنية أم كلثوم ضجًا في الموسيقى العربية بكاملها، باعت الأسطوانة في وقتها ما يقارب من نصف مليون أسطوانة، ليعود القصبجي بعد خمس سنين ليؤكد إنه يحب لعبة الزمن والجمال أيضًا، إنه هو المعلم وهو الصانع، يقدم لحنًا لا يقل جمالًا عن لحن السابق، ولكن هذه المرة بصوت المطربة الصاعدة في ذلك الوقت “أسمهان“، كانت أغنية من نظم يوسف بدروس، ومع اللحن تسمع صوت صراخات محمد القصبجي وهو يقول: “وجدتها وجدتها.. وجدتها من ستقف أمام أم كلثوم”.

صنع محمد القصبجي لحنًا استعراضيًا لحنجرة أسمهان، لحنًا مسترسلًا حد الاسترخاء من فرط الجمال، وبعيدًا عن ضياع حلم القصبجي بموت أسمهان وهي شابة في مقتبل العمر، لم يدرك القصبجي أن هذه الفتاة جاءت للأرض لتبتهج وتبهج من حولها، لا من أجل مال أو شهرة أو أي مكاسب خاصة، ومن نعم السماء أن البهجة مستمرة مع صوتها وجماله وخصوصيته النادرة.

ما بين أم كلثوم وأسمهان، وبالتحديد بعد سنة واحدة من لحن “إن كنت أسامح”، يصنع القصبجي لحنًا لمنولوج من نظم حسن عادلي، لتغنيه الست منيرة المهدية، ليؤكد بهدوء وحكمة زعيم مافيا متنكر في زي عازف عود هذيل الجسد، إنه هو المتحكم في الزمن، فيتحرك بين الحاضر “أم كلثوم”، والماضي “منيرة المهدية“، والمستقبل الضائع “أسمهان”.

تسجيل نقي للمنولوج، لتستمتع وترى حلاوة صوت الست منيرة واسترسال اللحن بكل عذوبة وجمال.

 

نجاة علي وفي نفس فترة الثلاثينات، ومع رفيقه أحمد رامي، نسمع نجاة علي في أحلى أغانيها، أغنية أيضًا من نفس جو الأغاني السابقة، لحنًا استعراضيًا مسترسلًا، ليسبح صوت نجاة بكل حرية وجمال.

 

مع المطربة والملحنة نادرة أمين، تغني من نظم محمد الأسمر، ولحن محمد القصبجي، وكأنه لحنًأ انتقاميًا، لحنًا مرهق للصوت والحنجرة، وللروح أيضًا، تحاول نادرة بأقصى ما عندها حتى تلاحق اللحن السابح في الفضاء، ليؤكد القصبجي؛ إن كل هذا الجمال والمجد يصعد من هنا من أوتار عوده وقلبه.

 

مازال محمد القصبجي يتحرك بكامل حريته مع الزمن، لم يترك القصبجي مطربة ألا وصنع لها لحنًا عظيمًا، لحن للخلود وفي صحة الجمال، لحن يجعلك ترى بعين اليقين، حلاوة الصوت وتفاصيله الجميلة، هنا مع مطربة القطرين، والصاحبة المقربة لأم كلثوم، تغني فتحية أحمد لحن من أجمل ما غنت في مسيرتها العظيمة والثرية.

في الأربعينات وبالتحديد في عام 1944، يصنع القصبجي لحنًا لمنولوج من نظم أبو السعود الإبياري في فيلم “حنان”، ومع حب القصبجي لموسيقى “الفالس”، يصنع لحنًا بديعًا ليتركنا نستمتع بصوت مطربة القطرين بكامل جماله وقوته، وأنوثته أيضًا.

 

لم ينته محمد القصبجي ولن، لكنها محاولة الاقتراب من قلاعه، ربما للتلصص على أسرارها، والتمتع بها في نفس الوقت، محاولة لإثبات دور القصبجي لا في التطوير ولا الأسبقية، لكن في الجمال، كل الألحان السابقة هي دليل مادي على جمال العمل ككل، واحترام الصوت وخصوصيته، ومازالت ألحان القصبجي تصارع الزمن وتسبح في الجمال.

نشر في موقع كسرة 2014