إذا كان “بيرم التونسي” أبو شعر العامية والزجل؛ فبالتأكيد أحسن تلاميذه، التلميذ الذي تفوّق على أستاذه، وتفوّق على نفسه أيضًا، ووضع اسمه على قمة شعر العامية بلا منافس أو منازع، فؤاد حداد.

يعتبر “حداد” أكثر شاعر عامية له دواوين، صاحب أكبر تجربة عامية بكل ما تعنيه كلمة تجربة، كحياة شخصية أو أدبية، أصيب حداد بجلطة في القلب عام 1977، ومع الجلطة أصيب بجفاف أدبي استمر حتى عام 1979، ثم عاد بعد شفائه، ورجع لكتابة الشعر بقوة، كان يكتب كل يوم، قائلًا: “عاوز الحق قبل ما أموت“، استمر حداد في الكتابة بنهم حتى وفاته عام 1985، كتب ما يقارب من ثلثي أعماله في هذه الفترة، ومات قبل أن ينشر نصف أعماله تقريبًا.

رغم كل ذلك، ورغم شهرة حداد على المستوى الثقافي بكل تنوعه وتباينه، ورغم وجود عائلة حداد في المشهد الثقافي بشكل كبير وواضح؛ إلا إنه عند البحث في الإنترنت  عن فؤاد حداد وقصائده، لن تجد إلا قليل القليل، لا يوجد موقع يحتوي قصائده، يوجد على الإنترنت أقل من 30% من أعمال أعظم شعراء العامية في تاريخ شعر العامية، ورغم أن رحيله من عالمنا منذ 30 عامًا، إلا إننا -حتى الآن- نسمع قصائدَ بصوت حداد، تنشر لأول مرة على الإنترنت بواسطة ابنه “أمين حداد”، تنشر القصائد دون اهتمام، دون كلام القصيدة، دون الإشارة لاسم الديوان؛ كانت آخرها قصيدة “تستغرب من إيه؟ تستغرب من مين؟ عندك أدباتيّه، وعندك مجرمين!” من ديوان الحمل الفلسطيني، والتي نشرت مطلع العام الحالي.

رغم عشقي له؛ أتحاشى الكتابة عن حداد، كيف تكتب عن شاعر بهذه القوة والثقافة، وكثافة الإنتاج الشعري وتنوعه، كيف تكتب عن شاعر خلق شاعرة تراثية وسماها “أم نبات”، ثم قام بتأليف كتاب يشرح أشاعرها تحت اسم “شرح ديوان أم نبات”، وكان الديوان بالطبع بالفصحى.

كنت حالف تحت عين الله

إني آخد حقي من موتي

مع قصيدة “سنة من السنين”، من ديوان ” النقش باللاسلكي (ليالي وصباحيات)”، وهو الجزء السادس من الأعمال الكاملة، والديوان الأول في الجزء الثالث من الأعمال الكاملة، تحت اسم “العيار الفالت” والذي يضم ثلاثة دواوين أخرى؛ وهي: “ريان يا فجل”، “كليم الشيخة أم الآه”، “العيار الفالت”.

يمتلك حداد زمام العامية، يتحرك في شوارعها، يحفظ ضواحيها وحاراتها، تخرج الموسيقى الشعرية من حداد، دون أي تكليف، مهما طال في القافية أو السجع، أو التكرار، لكن لن تمل، عليك فقط أن تلتقط أذناك موسيقى الكلام، حتى تستطيع قراءة القصيدة.

“يا حتة من روحي اللي بتردها

يا حتة من قلبي بتتقطع

يا حتة من خدي في شفايفها

من شفتي في خدها

يا حتة من ضحكي اللي مش قدها

يا حتة من عقلي اللي مش ليه“

من الروح للقلب للجسد، يتحرك حداد بكل بساطة، ويحرك المشهد معه، تتحرك كاميرا الشعر بانسيابية، لتجد الجملة “يا حتة من خدي في شفايفها”، هي صورة متحركة من كلمة التي تسبقها “بتتقطع”، ليتبعها “من شفتي في خدها”، اللهفة والعشق في صورة متحركة وسريعة.

مع نهاية المقطع، والسقوط في فخ الحياة؛ تجد “الضحك اللي مش على القد”، والسقوط تمامًا مع “العقل اللي مش ليه”، يهوى حداد الغموض، بقدر عشقه للمكاشفة والوضوح، ستستمر في البحث دائمًا عن معنى القصيدة، سيبقى جزءًا عصيًّا على الشرح، رغم ذلك يسحرك الكلام، ستبحث عن المعنى، ربما البحث في حد ذاته، شهادة نجاح لحداد نفسه.

من الداخلي للخارجي، من الفرد للمجموعة، من الباطن للظاهر، يخرج حداد للشارع والحارة، المونة والقصعة، تدخل حالة المجموعة، الزحام، العمل، الليل وبداية النهار، لا يرسم حداد مشهد واضح، لكنه يرسم خطوط الحركة، ينقل المشاعر ويترك لك الباقي، أنت كاتب المشهد.

الحواس الخمس؛ يتحرك حداد في قصائده، مستخدمًا كل الحواس، نتذكر جملة “شميت هواكي لقيت نفسي” في قصيدة “الليلة يا سمرا”، أو جملته المشهورة في قصيدة الحلزونة “ياريتني أعمى أشربك باللمس”، أو مثل جملته هنا في القصيدة “يا حتة طعم لساني وعينيه”.

يتحرك حداد بسلاسة بين أسطر القصيدة، من المرجيحة للديب، للأولاد، تكملة لمسيرة “يا حتة من …”؛ نجده بكل خفة من المعنوي للمادي، من المحسوس للملموس، من حتة من أحضان الأم ومشاعرها، للمعدية في السويس، يصور حداد من يكلمه أنه مثل السويس، “يا حتة بتوصلني زي السويس”. ولا ينسى حداد اللعب مع تراث مدن القناة، وريس الغليون، وأغنية يا لالي.

“كل الحيطان بتبوس في قلبي مرابعه

بغيب على مهلي كأني نسيت“

بيت القصيدة؛ لكل قصيدة من قصائد حداد، ستجد شطرًا أو بيتًا يسحرك، يجعلك فريسته ويتغذى عليك بكل رضا منك وطواعية، الحيطان اللي تقبل القلب، يصيبك التخبط، لا تعرف؛ أعليك أن تبتسم من الصورة، أم تحزن وتكتئب من السواد والوحدة والصمت المصاحب للمشهد؟ مازال التخبط في المشاعر، والأدوار، يتحرك حداد داخل النفْس وخارجها، الكل يفقد هويته على باب القصيدة، لا الزمن زمن ولا أنت أنت فقط، لا تعلم ما سبب النسيان، وما وقته وما أوجاعه. التركيز على المشاعر، حتى وهو ينساها لا تشعر غير أنك تشعر حالة الراحة نفسها والسلام والحب.

الرجاء والتوسل الجميل؛ بداية من كلمة “خليك هنا …”، الاسترسال في الإحساس، بتعدد الصور، من النداء للصراخ، لفقد الأمل “كأني قطر مش فايت/الدنيا مش سامعة/الشمس مش طالعة …”، وفي النهاية مع عمال القطار “العطشجي/التحويلجي”، التضاد الجميل، المفارقات، التخبط، سر من أسرار شعر حداد، التي كان يصنعها بكل خفة وإتقان، كصديقه على ضفة الأخرى “محمود درويش”، “فتح الإشارة الخضرا للممنوع”.

“بكيت مسحت دموعي… بمسح دموعي بكيت”، للبكاء طقوس عند حداد، وكما فعل في بداية قصيدة “بكيت في الأول بكيت في الثاني”، جاءت هنا في نهاية القصيدة ومع فعل البكاء أيضًا “كل الدموع متاخده من تهريجي.. متاخده من تهريجي كل الدموع”.

ينهي حداد القصيدة بمشهد متحرك، صورة مطولة، الفعل وحدوثه وتأثيره؛ كل ذلك بكل سهولة، دون أن تلاحظ ذلك، على الأقل في القراءة الأولى “يا حتة من قلبي بتتقطع… يا حتة من قلبي أنا المقطوع”، رحلة بسيطة في محراب حداد، في حضرة جزء صغير جدًّا من دوره في شعر العامية.

القصيدة

يا حتة من روحي اللي بتردها

يا حتة من قلبي بتتقطع

يا حتة من خدي في شفايفها

من شفتي في خدها

يا حتة من ضحكي اللي مش قدها

يا حتة من عقلي اللي مش ليه

مش قادرة تتعود على التمثيل

وتستفيد من دمي لما يسيل

يا حتة من غلبي مع الكذاب

 وحتة من غلبي مع الصادق

يا حتة من سلم رقبتي القمر

بيغني زي المونة في القصعة

يا ليل على كتاف الفواعيلة

ضي النهار ما لحقش يضرب كلاكس

ضيعني في الحادث ورجعني

يا حتة طعم لساني وعينيه

وقيصي في المرجيحة لما يدوخ

إذا هاجمني الديب هقف ملبوخ

يا حتة من بكره هتنجدني

أنفاس ولاد نايمين بتوجدني

وتولدني

يا حتة من أحضاني زي الأم

يا حتة بتوصلني زي السويس

يا ريس الغليون يا الأجريجي

أنا ريس الغليون والأجريجي

م الصبح واقف في ميدان القلعة

الترميات بتعدي بي البحر

إن نوّرت والا طفت شبابيكي

كل الحيطان بتبوس في قلبي مرابعه

بغيب على مهلي كأني نسيت

وبافتكر طريقتها لما تبوس

تقعد تهنني عشان ما ننامش

كأنها خافت عليّ الكابوس

كأنها أخفت عليّ الكابوس

خليك هنا ومفيش غيلان عميا

ومفيش حرايق في أُوَض تانية

يا جنينة تسكر في زمن محبوس

يا ليل ما جربش السفر بالقطر

بصرخ كأني قطر مش فايت

بصرخ كأن الدنيا مش سامعة

والشمس مش طالعة

والأرض مش زارعة

لا المزروع ولا المقلوع

ولا حد كان شايف من القلعة

الأيام اللي رايحه بتيجي

الأيام اللي جايه تروح

وكأني مش فاقس من البيضة

ولا عمري خالص من تلجيجي

مجنون عطشجي والا تحويلجي

فتح الأشارة الخضرا للممنوع

كل الدموع متاخدة من تهريجي

متاخدة من تهريجي كل الدموع

يا حتة من قلبي بتتقطع

يا حتة من قلبي أنا المقطوع

نشر في موقع التقرير عام 2015