شريف حسن

للغناء أشكال كثيرة، مثل القصيدة، الموشح، الدور، ومنها ما سنقوم بالحديث عنه هنا وهو (الطقطوقة).

الصدفة أم البدايات، كان المطرب والملحن “محمد علي لعبة” يلعب على عوده، حتى وضع لحن صغير لا هو موشح ولا قصيدة ودور، وعندما سمعته الست منيرة المهدية، قالت “أيه القطقوطة الحلوة دي”، ومنا ظهرت القطقوطة، ثم تم تحريف الإسم ليصبح كما هو علية الآن (طقطوقة).

البدايات دائما غير محددة بتاريخ واضح وصريح، هي تجارب مستمرة، تتدرج ببطئ وتغيرات صغيرة، ربما لا ترى بالعين المجردة، ربما كانت البداية قبل 1910.

طقطوقة (البحر بيضحك ليه) والتي غناها ولحنها سيد درويش سنة 1919، وكتب على نفس المذهب نجيب سرور أغنيته الشهيرة (البحر بيضحك ليه) لحن الشيخ إمام، تقول بعض الروايات أن هذه الطقطوقة من لحن (لعبة)، وربما تأكيدًا على هذه الراوية أنه لم يبق أي تسجيل لمحمد لعبة.

وبعيدًا عن جدال طقطوقة (البحر بيضحك ليه)، وهل هي من تلحين لعبة أم سيد درويش، لا أحد ينكر دور سيد درويش في إثراء المحتوى الغنائي للطقطوقة في تاريخ الغناء المصري، قدم درويش أكثر من 60 طقطوقة، بالتعاون مع الرفيقان بديع خيري والشيخ يونس القاضي.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، يا عزيز عيني، يا بلح زغلول -غناء عبد اللطيف البنا وغنتها نعيمة المصري-، أهو ده اللي صار، زورني كل سنة مرة -غناها حامد مرسي لأول مرة قبل عام 1917 في الإسكندرية-، وبصراحة براحة -غنتها الست منيرة المهدية-، وحرج علية بابا ماروحش السينما، وخفيف الروح بيتعاجب الذي غناها زكي أفندي مراد وهو والد المطربة ليلى مراد والملحن والمغني منير مراد.

0

والطقطوقة أبسط أشكال الغناء المصري، وهي مصرية النشأة، البساطة أهم ما يميزها من حيث الكلمات واللحن، فهي أهزوجة خفيفة تمتاز ببساطة اللحن وسهولة الأداء تكتب بالزجل وتتألف من عدة أجزاء الأول منها يسمى بالمذهب ثم يليه الأغصان، ويتكرر المذهب بعد كل غصن، وكان التركيز كله في المذهب من حيث سهولة الكلام واللحن، لأنه أكثر ما يكرر في الأغنية، وإذا نجح نجحت الطقطوقة.

وللطقطوقة أنواع كثيرة من حيث الكلام، ويتلخص سر الطقطوقة في سهولة المفردات وقربها إلى العامية المصرية، وتناولها لكل قضايا المجتمع بشكل بسيط وسهل حتى يصل إلى أكبر فئة من الشعب، ونستعرض بعض هذه الأنواع:

الشكل الوطني ونجده في أشكال عديدة، منها المصرح والمعلن به، مثل (يا عزيز عيني)، (وأهو ده اللي صار)، ومنها المستتر للتحايل على الأوضاع السياسية، مثل (شال الحمام حط الحمام) للست منيرة المهدية، و (يا بلح زغلول) للست نعيمة المصرية، ومثل (يا أم ليه تبكي وأنا مسافر الجهادية) للست نعيمة المصرية لحن سيد درويش، ونجد الغناء للملك مثل (بقدوم فاروق وفوزية) غناء محمد أفندي أنور، وطقطوقة (مارش جلالة الملك فؤاد) غناء المغنية التونسية حبيبة مسيكة.

نعيمة

وفي الشكل الاجتماعي نسمع نعيمة المصرية تغني “خد البزة واسكت خد البزة ونام بكرة تعيش وتكبر وتبقى تمام”، ونسمع أيضا زكي أفندي مراد وهو يغني للوطن “خد البِزَّةً واسكت خد البِزَّةً ونام نينتك مصر يا ابني اصحى عنها تنام”، والبِزَّةً هنا مقصود بها البدلة العسكرية.

لقا الطقطوقة

وبين أم تهدهد طفلها وبين من ينادي للدفاع عن الوطن ودخول الجيش، نجد الست رتيبة أحمد تتسول بطقطوقة “يا أفندي يا للي ماشي شحتني للمولود أبوه لسه ما جاشي والجودة م الموجود”، ألحان أحمد أفندي شريف، ولا تعلم هنا هل الأب لم يعد من العمل أو من مكان ما، أم هو غير موجود من الأساس، والطفل ما هو إلا لقيط تتسول أمه به لتكسب قوت يومها.

رتيبه_احمد

تقديم النصائح للفتاة في ليلة زفافها، كانت من الأمور الاجتماعية التي تناولها المطرب سيد أفندي مصطفى، وقال لبنته في ليلة زفافها “بكرة يا بنتي تدخلي دنيا وتعرفي إيه واجبات الزوجة إبقى اتغندري حطي كولونيا لكن أوعي ماتمشيش عوجة”، وهنا يظهر بعض ملامح هذه الفترة وهذا الشكل من الغناء والكلام، كيف ينصح الأب بنته، وما هي النصائح، فهو ينصحها وفي بعض الكلام يأمرها أن تتغندر وتتغنج وتمشي عوجة حتى لا يرافق الزوج امرأة عليها.

ومن الشكل التاريخي نرى للقدماء المصريين وتاريخهم وجود في الطقطوقة، ففي عام 1923 تم اكتشاف مقبرة توت غنج أمون، فتغني السلطانة منيرة المهدية “ما يجبش زيي إن لف الكون إحنا أبونا توت عنخ أمون”، وتشاركها الحدث الست نعيمة المصرية وتغني ” قوم هات لي بدلة لونها بديع توت عنخ أمون”، وهذه التناول للحدث يدل أيضا على مواكبة الطقطوقة لما يحدث في البلد ومتابعة الأخبار المسيطرة على الشارع المصري في وقتها.

وللغزل العفيف وجود واضح، يغني زكي أفندي مراد “خفيف الروح بيتعاجب” من كلمات بديع خيري ولحن سيد درويش، ونسمع الأسطى بهية المحلاوية تغني “الحنة يا حنة يا قطر الندى”، ومن كلماتها “لا احطك في عيني يا حبيبي واتكحل عليك”.

وشارك عدد كبير من الشعراء في كتابة الطقطوقة، وكان على رأسهم بديع خيري، الشيخ يونس القاضي، بيرم التونسي، وستجد بعض المفردات الأجنبية والأعجمية (الفرانكو آراب)، مثل في طقطوقة “لابس جبة وقفطان” لصالح أفندي عبد الحي، ويقول فيها “يعمل غندور ويقول بونجور باردون ميرسي ألا مور”، ونجد المطرب والملحن سيد أفندي شطا يغني “بونجور يا هانم”، وفي طقطوقة سيد درويش “سالمة يا سلامة” نسمع سيد درويش يقول من لحنه وكلمات بديع خيري “وحياة ربنا المعبود وي آر فري جود”، ونجد أيضا ألفاظ وكلمات تركية أو فارسية مثل ما غنى عبد اللطيف البنا في طقطوقة “على دول يامه” وقال “أبيبهاين بيبداين يشد بشيلة كردي الليلة”.

ومن حيث الألحان، شارك كل ملحنين هذه الفترة في تلحين الطقطوقة، مثل أحمد صدقي، محمد على لعبة، داوود حسني، إبراهيم فوزي. وكان على رأسهم بالطبع، سيد درويش وزكريا أحمد والقصبجي وهم من قاموا بتطوير الشكل اللحني للطقطوقة كما سنرى فيما بعد.

وفي وسط كل هذا الكم من الألحان والكلمات والمواضيع والأشكال والصراحة والجراءة في تناول المواضيع الاجتماعية مهما كان، كان الغزل الصريح والجنس والهنك والرنك أهم ما يميز هذه الفترة وهذا الشكل من الغناء.

منيرة المهدية

منيرة المهدية

السلطانة منيرة المهدية و”الحب حبك يا سيدي غطى ع الكل”، “وليلة ما جه في المنتزة”، هي أغاني تصرح فيها المرأة بحبها والحب هنا حب الجنس مع الحبيب، حب أن تخطف بوسة منه ويدللها، ويشربوا الويسكي، وسنجد أشهر ما غنت في هذا الشكل هي طقطوقة “بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة” وهي تعتبر أشهر طقطوقة في هذا الشكل وهي من لحن محمد القصبجي.

وترد الست نعيمة المصرية على السلطانة بطقطوقة “تعالى يا شاطر”، وهي الطقطوقة الشهيرة التي فيها الجملة الأشهر “هات الإزازة وقعد لاعبني”، وفي نفس الوقت يرد زكريا أحمد على منافسه القصبجي بهذا اللحن، وتغني نعيمة المصرية من الغزل الخفيف “يا ميت مسا على العيون الكويسة”، ولكنها أيضًا تغني طقطوقة “لك عليا لما تجيني تبقى ليلة أبهه”.

ونرى رتيبة أحمد تغني من ألحان زكريا أحمد “وعدي عليك يا لي بحبك يقل نومك يحرق قلبك”، وتصرح الأنسة مفيدة أحمد بكل ثقة “خد لك يوم وأنا ضامنة التاني مش ممكن يا حبيبي تسلاني”، وتغني آسيا ندا “سرير النوم”، وتقول حبيبة مسيكة “على سرير النوم دلعني”.

حبيبة مسيكة

حبيبة مسيكة

هكذا كانت الأنثى تغني في هذا الشكل، بكل صراحة تطلب العشق والجنس، وتطلب من والدها أن يسمح بزواجها، وتشرح له عن مدى حبها، أو تحكي لحبيبها عن موافقة البيت للزواج مثل طقطوقة “كلام في سرك” للأنسة نبوية غزال، أو تطلب منه أن يفي بوعده ويتزوجها مثل الست نعمية المصرية وهي تقول “فرغ الهزار ما بقي الا الجد وكل شيء يا حبيبي له حد”، ونراها أيضا تتحدى المجتمع والأهل وتقول بكل وضوح ” مش عايزة اتجوز سيبوني يا ناس حرام جننتوني بقي كل ساعة تكايدوني ما اخدشي غير اللي بحبه”.

وفي الدلع والغنج، نرى رتيبة أحمد تقول بكل وضوح في طقطوقة “يا سمبتيك خالص يا مهندم”، تجيش تزورني الليلة يا أفندم يا سمبتيك أهون عليك أزعل واتأثر أظني ما يليقشي”، والتي غنتها سناء الباروني في فيلم “بين القصرين”.

وفي الجهة الأخرى، نجد عبد الحي أفندي حلمي يغني “وجننتيني يابنت يا بيضة وجننتيني”، وهنا نرى مدى ارتباط التراث بالطقطوقة، فيقول في الطقطوقة جيبتي النبيذ الأحمر وسكرتيني، نتذكر سويا أغنية محمد حمام “يا عم يا جمال” وهي أغنية كتبها صديقه ورفيقه في المعتقل مجدي نجيب على مذهب التراثي الأساسي، وقال فيها نفس الجملة، ونجد أيضا في نهاية الأغنية يقول عبد الحي أفندي “قولوا لعين الشمس ما تحماشي لحسن غزال البر صابح ماشي”، هكذا أيضا كتب مجدي نجيب لمحمد حمام أغنية قولوا لعين الشمس ما تحماشي، قبل أن يعدل عليها لشادية وتصبح لحسن حبيب القلب بدلا عن غزال البر، وهي في الأصل أغنية من التراث المصري، ترجع قصتها لواقعة إعدام الشاب المصري “إبراهيم الورداني” بسبب اغتياله لبطرس غالي.

عبد الحي أفندي حلمي

عبد الحي أفندي حلمي

ونجد عبد الحي أفندي يغني على لسان الأنثى ويقول “وإن كنت خايف من جوزي حشاش وواكل داتورة وإن كنت خايف من البواب أعمى ورجله مكسورة”، ولم يكن وحده عبد الحي من غنى على لسان الأنثى، فكان رائد هذه الطريقة كروان مصر وبلبل الشرق عبد اللطيف البنا، والذي كان يصنف من العوالم، والعالمة هي العالمة بفنون الغناء والطرب، وكان يساعده في ذلك صوته النسائي، نتذكر مثلا طقطوقة “إيه رأيك في خفافتي”، وطقطوقة “ارخي الستارة اللي في ريحنا، وطقطوقة “ما تخافش عليه أنا واحده سجوريا”.

عبد اللطيف البنا

عبد اللطيف البنا

ومن الطريف في كلام الأغاني وتقبل المجتمع له، كان الشيخ يونس القاضي أكثر من ساهم في كتابة هذا الشكل من الكلام الصريح والغزل والهنك والرنك، قد تقلد منصب رئيس الرقابة وبدأ في منع هذه الأغاني لما بها من كلام غير لائق وخارج حدود العادات والتقاليد.

وفي هذه الفترة كان ظهور عمالقة الموسيقى العربية للمرحلة القادمة وعلى مدار أكثر من 40 عام، أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، بمساعدة الملحنين الذين حملوا الراية بعد رحيل سيد درويش، محمد القصبجي والشيخ زكريا أحمد ورياض السنباطي.

أم كلثوم

أم كلثوم

 

غنت كوكب الشرق وموسيقار الأجيال بالطبع هذا الشكل الغنائي “الطقطوقة”، وعلى رغم غنائها لطقطوقات جميلة مثل “على بلد المحبوب” لحن السنباطي، ” “غني لي شوي شوي” لحن زكريا أحمد، ولكن كان يحسب على الست غنائها لعدة طقطوقات من نوع الهنك والرنك، مثل “ليه المكايدة، وأنا على كيفك، والأشهر “الخلاعة والدلاعة مذهبي”، وغيرهم وأغلبهم من ألحان الدكتور أحمد صبري النجريدي، وعلى نفس الصعيد لم يتقرب عبد الوهاب من هذا النوع رغم غنائه للطقطوقة، كانت أكثر طقطوقة اقتربت ولو من بعيد من شكل الطقطوقة الهنك والرنك، طقطوقة “فيك عشرة كوتشينة” من كلمات يونس القاضي ولحن سيد درويش، ولم يلحن السنباطي أي لحن لطقطوقة من هذا النوع طوال مسيرته الفنية.

لكل شيء بداية وفترة ازدهار ونهاية، أو هي ليست نهاية ولكنها تطوير، وقد بدأ من وقت سيد درويش، كلحن “العربجية” والذي يتضمن ثلاث أغصان دون مذهب وهو ما يعتبر شكل من أشكال التطوير، ثم كان التطوير في شكل إعادة المقطع الأخير في المذهب لا المذهب كله، وكان التطوير الكامل على يد القصبجي وزكريا أحمد.

فقدم القصبجي مع أم كلثوم لحن كان بمثابة بدأ شكل جديد في شكل الغناء العربي، وهو “إن كنت اسامح” 1928، ثم لحن مثل “كنت الأماني” لأسمهان 1933، وشارك أيضا زكريا أحمد في ذلك التطوير وظهر ذلك بوضوح في أغنية “حبيبي سعد أوقاته” 1943.

لم تكن الطقطوقة مساحة للطرب، أضافة لسوء التسجيلات في ذلك الوقت، ولكنها كانت سبب رئيسي في ظهور الشكل الغنائي الجديد “المنولوج” بشكل واضح الملامح، والمنولوج هو التحرر من أي التزام في الشكل الكلامي أو الموسيقى، الشاعر يطلق العنان لخياله ليكتب عن مشاعره وتكون ذات بداية ونهاية، والملحن لا يرتبط بمذهب أو أغصان ولا مقام معين، وقد تتضمن مقاطع موسيقية يفصلها لوازم كما في “رق الحبيب”.

لم تنتهي الطقطوقة ولم تختفي، تجد أغاني كثيرة منية في شكل الطقطوقة من حيث الشكل الكلامي أو الموسيقي أو الاثنين معًا، مثل أغاني الشيخ أمام وأحمد فؤاد نجم، ومثل بين شطين محمد قنديل، بلد المحبوب وبلاش تبوسني في عينيا لعبد الوهاب، ست الحبايب وبيت العز لفايزة أحمد، وبتسأليني بحبك ليه لمحمد عبد المطلب، وبعدك على بالي للسيدة فيروز.

 نشر في موقع التحفجية عام 2014