رحل عبد الرحمن الأبنودي رحل عنا، ورحلت قبله يامنة، وفاطمة قنديل، وغيرهم من أهل الأبنودي. خلد الأبنودي عمته “يامنة” عندما كتب قصيدته الشهيرة التي تحمل اسمها.

القصيدة تداع حر من العمة مع الأبنودي، حوار حذف الأبنودي كل كلامه تاركًا كلامها فقط.

والله وشبت يا عبد الرُّحمان..

عجّزت يا واد؟

مُسْرَعْ؟

ميتى وكيف؟

عاد اللي يعجّز في بلاده

غير اللي يعجز ضيف!

الغربة، بعد كل هذه السنين مازال الأبنودي غريبًا على القاهرة، ضيفًا عابرًا، ربط الغربة بالعجز والشيب. الاسترسال هو أساس القصيدة، حديث من قلب وعقل امرأة صعيدية عجوز، تكرار الاسم، علاقة الموت بالعمر علاقة ليس لها قاعدة، والخوف من عشوائية الموت هو المسيطر على إيقاع القصيدة.

هلكوك النسوان؟

شفتك مرة في التليفزيون

ومرة.. وروني صورتك في الجورنان

قلت: كبر عبد الرحمان!

أمال أنا على كده مت بقى لي ميت حول!

والله خايفة يا وليدي القعدة لتطول.

للحواس الخمس مكانة خاصة في شعر عبد الرحمن الأبنودي، خاصة حاسة الشم، يعلم أهمية الرائحة للأنثى، كما قال في “جوابات حراجي القط” على لسان فاطنة «فوصلنا خطابك.. شمينا فيه ريحة الأحباب»، وهنا يقول على لسان يامنة: «على كلٍّ أهي ريحة من ريحتك ع الأرض» وأيضًا: «أهو عشنا وطلنا منك بصة وشمة».

الموسيقى في شعر عبد الرحمن الأبنودي دائمًا حاضرة بقوة، موسيقى تضيف سحرًا خاصًا على النص، من بصة وشمة لجملة «دلوك بس ما فكرت ف يامنة وقلت: يا عمة؟».

من العتاب للحب، يعي عبد الرحمن الأبنودي عقل وقلب الست الصعيدية العجوز، تتنقل بين المواضيع، الجواب والرد، الحزن والفرح، تكرار الفعل في تصريفات مختلفة، (حبيبي وتتحب).

حبيبي أنت يا عبد الرحمان

والله حبيبي.. وتتحب

على قد ما سارقاك الغربة

لكن ليك قلب

مش زي ولاد الكلب

اللي نسيونا زمان

يستمر الاسترسال، لكن تعرج منها إلى أمور جديدة، من الزوجة إلى بنات الأبنودي، السخرية وكسر التابوهات هي أمور معتادة من الجدات، لا تخشى أحدًا ولا المجتمع بعاداته وتقاليده، وفي الوقت نفسه هي أكثر شخص متمسك بها، لتنهي الفقرة بالحكمة والخلاصة: «غيرشي الإنسان مغرور».

الهدية (قطيفة وكستور)

الهدية وفلسفة التعامل معها على مراحل، بداية من «كنت اديتهمني فلوس أشتري للركبة دهان»، ثم هاجس الموت المسيطر دائمًا على التفكير: «خليهم ينفعوا أعملهم أكفان»، لتعود في نهاية القصيدة توضح أكثر، وتؤكد فكرة التداعي الحر والاسترسال في الحديث وربط كل الأمور ببعضها، وارتباطها بالموت من قريب أو بعيد: «الدوا عاوزاه لوجيعة الركبة مش لطوالة العمر».

طب ده انا ليّا ستّ سنين

مزروعة في ظهر الباب

لم طلّوا علينا أحبة ولا أغراب

عبد الرحمن الأبنودي تلميذ وصديق فؤاد حداد، يهوى الجمل القصيرة والصورة الجميلة الموجعة، الاختزال، يعلم أن الكتابة فن الحذف، وأن الخيال البطل الأول والأخير للنص، كل كلمة لها مدلولها الخاص يخدم أيضًا المدلول العام، مزروعة دليل على الثبات في المكان، ظهر الباب، من أجمل صور الوحدة، لا أحد يأتي لذلك الباب فيظل مغلقًا، وتظل هي جالسة تسند ظهرها في ظهر الباب، أحبة ولا أغراب، الوحدة الكاملة والموحشة.

الموت هو العمود الفقري للنص، بكل مخاوفه وأساطيره ومفاجآته، بكل مرضه وألمه، بكل ما في الحياة من متع وآلام، تصرخ العمة، ويتحرك الأبنودي خلف الكواليس، ينقل لك إحساسها بكل صدق، تذكره بكل من رحل سريعًا، يتذكر الأبنودي أصدقاءه “أمل دنقل” و”يحيى الطاهر عبد الله”، كرات من النار تقذفها العمة بكل عفوية وطيبة، كل ما حييت كل ما مت تدريجيًا، معادلة صعبة ربما مستحيلة الحل، عليك أن تعيش كأنك ستموت غدًا وأيضًا كأنك تعيش فيها أبدًا.

أسئلة كثيرة ومخاوف أكثر يطرحها الأبنودي على لسان عمته، ويعرف كيف يهرب من المساءلة، كيف يكسب نفسه، ولا يخسر الشعر، أو ربما كان قادرًا على فعل ذلك وقتها. الموت تدريجيًا كالزرع الذابل، كالنسمة الساكنة، تؤكد العمة كلامها بأن «حتى سلامو عليكم مش بتعدي من بره الأعتاب».

تستمر العمة في الصراخ والتحذير، في التسجيل بصوت عبد الرحمن الأبنودي، تشعر كأنك تسمع العمة نفسها، حتى انقطاع النفس وقت الكلام، الموت هو طوق النجاة الوحيد، هكذا تشعرك العمة، وتخسف بكل متع الحياة في جملة واحدة «الورث تراب وحيطان الأيام طين».

البسترة، التنقل بين المشاعر بشكل مكثف وصعب، بعد كل هذا الحديث عن الموت، تأتي جملة عابرة خفيفة على القلب: «مش كنت جميلة يا واد؟ مش كنت وكنت وجَدَعَة تخاف مني الرجال» وتعود مرة ثانية للموت، كلما اقتربت القصيدة من النهاية، اقتربت يامنة من الموت، موت بناتها، وتضع نصيحة المجرب، من ذاق من الكأس نفسه.

إوعى تعيش يوم واحد بعد عيالك

إوعى يا عبد الرحمان

في الدنيا أوجاع وهموم أشكال وألوان

الناس مابتعرفهاش

أوعرهم لو حتعيش

بعد عيالك ماتموت

ساعتها بس..

حاتعرف إيه هوّه الموت!

«لسه بتحكي لهم بحري حكاية فاطنة وحراجي القط؟»، شخصية يامنة قريبة جدًا من شخصيات ديوان “جوابات حراجي القط”، وخاصة شخصية “أم على أب عباس”، وطريقة كلامها عن الموت، في الجواب السادس تقول الأم على لسان فاطنة: «اللي مانعني من الموت اليوم اللي أشوف علي فيه متهني وفاتح بيت، يومها أقول للدنيا ضحكت عليكي خلاص غوري».

تحكي يامنة عن الأبنودي، أصعب ما في القصيدة، يحكي عن نفسه على لسان غيره، يصارع الشعر، قالت قبل ذلك: «بس عندك قلب»، وهنا تسترسل أكثر في الحديث، وصفه بالحداية: «من صغرك بضوافر واعرة ومناقير، بس ماكنتش كداب»، استخدام “بس” ونفي الماضي، لا يشترط نفيه في أي زمن آخر، تبقى الجملة حمالة أوجه، وينتصر الشعر على الأبنودي كعادته.

رغم كل ما سبق من حديث عن الموت؛ إلا أن يامنة تنتظره بكل هدوء، وتكمل في حياتها البسيطة، وتسأل بكل طفولية وحب واستنكار وسخرية:

حاتيجي العيد الجاي؟

وإذا جيت

حاتجيني لجاي؟

وحتشرب مع يامنة الشاي؟

ولأول وآخر مرة تسمع صوتًا غير صوت يامنة في القصيدة، صوت الأبنودي وهو ينهي القصيدة؛ لتنتصر يامنة على الموت، وينتصر الشعر على الأبنودي.

حاجي يا عمة وجيت..

لا لقيت يامنة ولا البيت!

نشر في موقع التقرير عام 2015