شريف حسن

قصائد كثيرة كتبت عن ثورة 25 يناير، دواوين كاملة تتحدث عن الثورة والوطن، لدرجة أصبح فيها الحدث يؤرخ شعريًا تزامنًا مع حدوثه، وكأن الشعر أصبح منافسًا للوكالات الإخبارية، لم يسلم من شيطان الشعر الثوري أإا من رحم ربي، حتى إن شعراء كبارًا وقعوا في هذا الفخ، كتبوا قصائد، هي أسوء ما كتب عن الثورة، وأسوء ما كتبوا في مشوارهم الطويل.

(فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض)، في ضوء هذه الآية القرآنية، يتصارع الشعر في ذكريات ومخيلات الناس، حتى يبقى ما يبقى ويتبخر ما يتبخر، لأن برغم ضعف معظم ما كتب عن الثورة، لكن هناك بعض القصائد خارج حدود الزمن والمكان، بعيدًا عن التغطية الخبرية للحدث.

ولكن، أعتقد أن من أفضل ما كتب عن الثورة هو ما كتب قبل حدوثها، على الشاعر أن يرى ما هو قادم، الشاعر يؤرخ المستقبل، يحلم ويحلم، ويراهن على عدم تحقيق الحلم، على الشاعر أن يكون عصيًا حتى على الحلم، في رحلة مع قصيدتين كتبا فعليًا قبل الثورة بفترة طويلة، تشعر طوال القصيدتين أنهما يؤرخان الثورة وما حدث فيها، بعيدًا عن الحماس الثوري المشتعل. نصان يتسمان بالواقعية، الخيال الهادئ، الجنون المبني على درجة من الواقع المرير، درجة من اليأس ليست خيانة، ولكنها واقعية، وتحذيرات لم نسمع لها، ولم نعرها حقها في الانتباه.

بداية مع النص الأول، والأقدم تاريخًا، قصيدة “الثورة” لعماد أبي صالح من ديوان “قبور واسعة” نشر سنة 1999، عماد الشاعر الخفي، الهارب من الجميع ربما حتى نفسه، يكتب نصًا يحاكي فيه الثورة قبل حدوثها بأكثر من عشر سنوات، لا يخضع الشاعر لمسألة الزمن، الزمن في محراب الشاعر تحت طوع الشاعر، كالكلب الوفي لصاحبه، يتحدث عماد ببصيرة المتوحد، وذاكرة رجل مسن أنهكه الزمن والذكريات.

“حدث

يومًا،

أن ثار الناس

 على الملك،

 في مدينة قديمة.

 كان ملكًا ظالمًا

 “ديكتاتور”

 كما نقول نحن

 في لغتنا،

في هذه الأيام

من نفس فترة كتابة النص ونضج شاعر التسعينيات عماد، يبدأ رامي يحيى قصيدة “سورة الثورة”، والتي تقوم على فكرة التناص القرآني، القصيدة كتبت في عام 2005، ونشرت في ديوان كلام كريم عام 2012.

يستعيد رامي الماضي أيضًا، يستدعي فعل الاستمرارية، بعكس عماد؛ عماد ذكر سبب الثورة، «كان ملكًا ظالمًا “ديكتاتور”»، رامي واقع في شباك الناس، الشارع أكثر، عبر عن تأثير الظلم الواقع، البحث عن الحقيقة في وسط الظلام الدامس، الفقر المبين، الجوع، الذي عبر عنه رامي في بداية نفس الديوان “كلام كريم”، «يا أيها الإله يا أيها العالم يا أيها المجتمع أنا جعااااااان، على رأي عم نجم، «جعان جوع تاريخي»»، وطبعًا لا نغفل من بداية النص، فكرة التناص القرآني.

“عَشر سنين وأنت بـتهُزُ أليك بجذع نخلة الحقيقة

ولساها مش عايزة تسقط..

رُطب الروح

أعلن مُعجزتك ع الملأ..

وهي أنك قادر تعيش

أخرِج جيبك فيبدو ناصعًا للناظرين

جوعك المستخبي وراك مستنيهم يكونوا هُم المُلقون

فتبقى كده لتاني مرَّة بتقدِّم كَرَامة“

تستمر المعارضة بين الشاعرين والنصين، الحديث عن حدث واحد من نقطتين متباينتين، هو الشعر؛ كيف ترى المشهد برؤية خاصة، في حديث خاص مع رامي يحيى، أوضح أن لكل شخص عقله وعينه المختلفان عن الجميع، ومن هنا تكمن الخصوصية للشاعر الغريب رامي، وفي المقابل شاعر لا يقل غرابة عن رامي، شاعر يمارس غرابته في الخفاء، يصنف عماد جموع الشعب؛ «(فلاحون بظهور محنية نفعت في حمل الأشخاص الذين تسلقوا الأسوار) وعمال مناجم (كانوا الأقدر على تحمل غبار الزحف)» وكأنه في مجلس الشعب، ولكنه يضيف لمسة الشاعر، فتجد «ومتشردون (حين قُتلوا، لم يكن لهم أهل يعكرون فرحة النصر ببكائهم) وعاطلون عن العمل (كأنهم كانوا يدخرون قوّتهم طول السنين الماضية)».

لكن، في المقابل تجد رامي يتحدث عن المحرك للثورات، عن مستصغر الشرر، عن الفحم الأول، عن المناضل السياسي، والناشط الحقوقي، نصائح يحتاجها كل سياسي، بكل بساطة يتسمر التناص ويستمر هدوء رامي في توضيح النقاط بكل بساطة.

“بس خُد بالك:

1-النبوة مش شال تحطه على كتافك وتتعايق على مخاليق..

 ما عرفوش يطلعوا مسوغات النبوة من وسط كراكيب الذات.

2-النبوة أدب.. مش مُعجزات وخلاص.

3-مش كل اللي واقف جنبك يبقى معاك.. أوعاك من يهوذا السامري.

 ركز فـ عيون الناس..

علامة المؤمن إنك تلمح فـ عينه سبع بقراتٍ عجاف

وفي العين التانية سبع بقرات أعجف منهُم“

أوضح رامي فكرة الخيانة، في شكل يهوذا الإسخريوطي، والسامري، رامي يريد تأكيد فكرة الخيانة وتعدد أشكالها، أكثر من الشخص الخائن، لكن عماد فاق تأثير الشاعر بداخله عن المناضل أو المواطن العادي، وربما عماد ببصيرة الشاعر كان يرى ميدان التحرير في الـ 18 يومًا الأولى، «اللصوص ثاروا بشرف رغم أن أيديهم كانت يمكن أن تمتد بسهولة لجيوب الثوار في الزحام»، في المجمل لا قواعد في الشعر، ولا حقيقة، الكل على صواب والكل على خطأ أيضًا.

نلاحظ تغير موضع الكاميرا في القصيدتين، بعدما بدأ رامي النص من وسط الجمع الغاضب، قرر الكتابة من فوق، وكأنه مانفيستو للثورة، دليل الاستخدام والتحذيرات، تماشيًا مع فكرة التناص القرآني، بداية من اسم النص “سورة الثورة”، يكتب وكأنه خطاب إلهي، كما أنزله الوحي دون تدخل منه، نلاحظ استمرارية تقديم النصائح والمحظورات في نص رامي.

“خلاص.. حددت المؤمنين

ضموا سواعدكُم تروس..

دوروا عيونكُم سواقي

صلوا سوا البُكا جماعة…. من غير إمام

لما دموعكُم تغطي بلاط فرعون..

ما تختموش الصلاة

زيدوا تراتيلكم حماس“

رامي يؤكد أن الثورة بلا قائد أو إمام، كما أقر ذلك عماد ولكن بشكل غير مباشر، مع عماد كانت الكاميرا في الشارع، وسط الجموع، تتحرك بروح وخيال وبصيرة الشاعر، ترى الجمال ولا ترى غيره، يقلب عماد الواقع، يتحدث عن الثورة كما تحدث الناس عن الـ 18 يوم في ميدان التحرير، «والمجانين كسروا أبواب البيمارستانات وتعالت حناجرهم بهتافات هيستيرية إذ أصبح جنونهم، لأول مرة، محل احترام حقيقي. فقط مرضى الجذام انتهزوا الفرصة وقبّلوا الناس بشفاه متآكلة لكن لا أحد دفعهم بعيدًا ولا بصق قبلاتهم».

يستمر عماد في الخيال الشعري، في الحلم، هذا الحلم في وقت كان الوضع السياسي هادئًا، يكتب بكل هدوء، حتى يصل إلى قمة الخيال الشعري، ليرى الجنون الثوري الكامل، «مرت الثورة على حديقة فجرفت معها الأشجار غير أن الأشجار، وهي تسير معهم، كانت تغني، بعصافيرها، أغنيات لأجل الحرية».

“لازمًا تتبل قُلنسوة هامان

ويعوم الصولجان فـ إيد سيده

فيتفسر إنكَ رأيت أحدى عشرَ كوكباً والشمسَ والقمر سواسية

ولو عنيك ابيضت -زي أبوك-

ابقى افتكر سواد البير“

وفي الجهة الأخرى يستمر رامي في تقديم النصائح، والبيانات السياسية، الكل سواسية أمام المجتمع، تنتابك الريبة والحيرة، متى كتب هذا الكلام؟، كيف رأى رامي ما سيحدث بكل هذا الوضوح، الشعر تأريخ للمستقبل والرهان مع التاريخ، تجد رامي يؤكد «أساورُ الملكة مفاتيح خزانة الأمير خرايط الكنوز المتهربة الفواكه بره مواسمها لو كل دول طفوا فوق وش مُعجزة الجماعة.. ما تقطعوش الصلاة وتجروا ع الأنفال كملوا التراتيل.. فاضل ركعتين ويبقى الطوفان حقيقة».

بالحلم الثوري، وآمال شاعر شاب، يؤكد رامي في نهاية قصيدته، فكرة الثورة وشعارها الأساسي، عيش حرية عدالة اجتماعية، يؤكده بشكل واضح وقاطع، «أول ما الميه تغطي أبراج الطين اضرب بعصاكَ العرش لتمُروا من بين شقيهِ.. إلى عالمٍ بلا تيجان فيجدوا كل أُناسٍ مشربهُم».

بعد الوصول لقمة الخيال الشعري عند عماد، كان الهبوط الاضطراري، كان الرجوع للواقع، لسلبيات الثورة، للدم، للخسائر، لجنون الثورة، فالثورة وحش كاسر كما نعتها عماد في نصه قبل حدوثها، «كانت ثورة مثل وحش عانى سنوات طويلة من الجوع أكلت، في طريقها، كلابًا وقططًا أكلت أطفالاً حاولوا تقليد آبائهم بسيوف خشبية أكلت ناسًا منها حين اختل توازنهم وسقطوا تحت الأقدام».

الشاعر ضد الثورة، الشاعر يحرض على الثورة، ولكنه ضدها، ضدها لأن الشاعر يجب ألا يرضى بوضع، ضدها لأن نهاية الثورة؛ نظام ديكتاتوري، الشاعر دائمًا يحلم بالأفضل، يحلم ويحلم، ويؤرخ حلمه كأنه واقع، هكذا قالي لي عماد أبو صالح في حوار خاصه معه، وهكذا ينهي عماد نصه بالارتطام بالواقع، ارتطام موجع، ارتطام حدث بالفعل بعد سنين من كتابته، «العجائز الطاعنون في السن هم الذين امتنعوا عن المشاركة في ذلك اليوم كانوا يبتسمون ويقولون: “الملك! نحن أيضًا كنا شنقناه على شجرة ضخمة في حديقة قصره”»

“والتاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله يلقي عليهم نظرة ويمر“، هكذا قال محمود درويش في نصه الطويل “جدارية”، ولكن عماد قالها قبله بعدة سنوات قليلة، قالها عماد بكل هدوء، وبعيدًا عن ألعاب اللغة، والنبرة الدرويشية، أوضح عماد، أن الشاعر ضد الثورة، أن التاريخ يكرر نفسه، وأن الثورة نهايتها ملك ظالم “ديكتاتور” كما نقول نحن، في لغتنا، في هذه الأيام.

“كان المشهد هو نفسه

كأن الزمن لم يمر

حتى أن عجائز منهم

اختلط عليهم الأمر:

هل هم الذين يتفرجون في الشبابيك

بأيدٍ مرتعشة

أم الذين يصرعون الحراس

هناك،

في مقدمة الصفوف؟“.

نشر في موقع التقرير