شريف حسن

وعندما أعطيك أملي، عندما أجعله وقفا عليك وعليه، فمعنى ذلك إنني أعطيك حياتي نفسها، يا حياتي نفسها، ومعنى ذلك إنني أعطيك نفسي، يا نفسي، ولا أعتقد أن هنالك أغلي من نفس الإنسان على نفسه، كي يقدمه إلى من يحب ويأمل.
كان هذا جزء من رسالة من غسان كنفناني، إلى بنت أخته لميس، رفيقة خالها وتمليذته وكما يقال في المثل الشعبي “الخال والد”، حتى عندما أغتيل غسان كنفناني من 42 عام وانفجرت سيارته كانت في صحبته وعاشت معه كل تفاصيل الموت، حتى الموت نفسه ورحلت معه ودفته بجواراه.

غسان اليوم يكمل عامه 78 ومازال يجلس هو وبنت أخته لميس تحت ظل شجرة في عكا، لميس أول حفيد في أسرة غسان، وبنت ليلى كنفاني، لميس كانت اقتربت من عامها 22 عندما طار جسدها من السيارة مع خالها، لميس اكلمت هذه السنة 59 سنة، منهم 42 عام في صحبة غسان فقط.

فلماذا ولدت في فلسطين؟ لماذا ارتكبت هذا الذنب؟

هكذا سأله صديقه محمود درويش في رثائه، غسان الطفل الوحيد من بين إخوته الذي ولد في عكا سنة 1936، ومن المصادفة إنه عاش 36 عام فقط، وتهجر بين القرى الفلسطينية ودمشق وبيروت والكويت.

غسان مدرس الرسم الشاب في مدرسة اللاجئين، يطلب من الأطفال رسم “تفاحة”، ولكن يأتي الصمت من التشرد والغربة عن المسكن والوطن، لا يعرف الأطفال شكل هذه الفاكهة، فيطلب منهم رسم المخيم، ويعلم أن السياسة متداخلة في الحياة بكل أشكالها.

غسان ورث مرض السكري، والنقرص كان ضيف ثقيل في السنوات الأخيرة، ولكنه لم يكل ولم يجلس ليستريح، فظل 36 عام يكتب ما بين مقالات وصحافة وقصص قصيرة وروايات ونقد، غسان أول من كتب عن الأدب الصهويني وكان غسان يكتب في بدايته وبعض الأحيان تحت اسماء مستعارة ومنها “أبو العز”، “غ.ك”، “فارس ـ فارس”، “(…)”.

كانت أخر أعمال غسان رواية “من قتل ليلى الحايك” وهي أول رواية بعيدة عن فلسطين، ولكن فلسطين فيها بشكل غير مباشر، وغسان يناقش أهم المشاكل الفلسفية من حب وعدل وانتقام وظلم، ربما كان يبحث عن حل لحيرة الحب والحرب، تزوج غسان من “آني”  الدنماركية سنة 1961، وعاشت معه 12 سنة.

 وتقول زوجته عن اللقاء الأول ” منذ اللحظة الأولى للقائنا ، وثقتُ بكَ يا غسّان. لقد كـُنتَ على الدوام كلّيَ الصدقْ، حتى حين عرضتَ عليَ الزواج، فرشتَ أوراقك على الطاولة: لا وطن، لا مستقبل، لا مال، لا جواز سفر، ومرض مُزمنْ ضارٍ. ولم يُشكل ذلكَ كلهُ عندي أيَ عائقْ، فأنا أحببتُكَ أَنتَ يا غسّان وأُعجبتُ بكَ أنتْ. وعلى الرغم من (الوعود) الكثيرة المخفِقة، فقد أعطيتني ما يقرب من إحدى عشر سنة هي أجمل ما في حياتي وأشدُها أهمية، وهي سنوات سوف أعبُ منها العزيمة من أجل مواصلة السنوات الصعبة القادمة.

غسان ليس صحفيا وقاص وروائيًا فقط، ولكنه رسام أيضًا، رسم غسان بعدد سنين عمره، ست وثلاثين عملاً زيتياً وملوناً، وأعمال أخرى كثيرة بالفحم أو قلم الرصاص والحبر، “أم سعد” لوحة تشكيلية قبل أن تكون عملا أدبيا، وهنا يوضح التكامل بين إبداعات غسان.

“لسوف ندفع لكم من قلقنا ثمن اطمئنانكم، ولسوف تستقرون على حساب ثورتنا، أن مشيئة التاريخ أن نكون نحن، ونحن فقط جيل الانقلاب”، هكذا كتب غسان لحبيبته وبنت اخته “لميس”، ومازال غسان يفعل عادته كل سنة، يوم عيد ميلاد لميس، لم يمنعه الموت وكبر سن لميس، فقد اصبحت في سن الجدة.

كان غسان يكتب قصة ويرسم صورة للميس كل عيد ميلاد لها، ومنذ الأغتيال أصبحت القصص والرسومات خاصة لهم هم فقط، رحل غسان وبقت أعماله، وروحه الخفيفة والمتعبة والمثقلة بالهموم والوطن.

أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟ لم نجاوب الإجابة المعروفة أو الإجابات الأخرى، سنترك الإجابة لصديقه محمود درويش في مقال “محاولة رثاء بركان \ في رثاء غسان كنفاني”.

كم يشبهك الوطن! وكم تشبه الوطن!

حملناك في كيس ووضعناك في جنازة بمصاحبة الأناشيد الرديئة، تماما كما حملنا الوطن في كيس، ووضعناه في جنازة لم تنته حتى الآن، وبمصاحبة الأناشيد الرديئة.والموت دائما رفيق الجمال. جميل أنت في الموت يا غسان. بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر. لقد انتحر الموت فيك. انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة. اكتمل الآن بك، واكتملت به. ونحن حملناكم ـ أنت والوطن والموت ـ حملناكم في كيس ووضعناكم في جنازة رديئة الأناشيد. ولم نعرف من نرثي منكم. فالكل قابل للرثاء. وكنا قد أسلمنا أنفسنا للموت الطبيعي.

الرسام الفلسطيني ناجي العلي في جنازة غسان كنفاني، والذي أغتيل بعده بـ 15 عام. فالسلام عليك يا غسان وعلى ابنة أختك الجدة الصغيرة لميس..

نشر في موقع اتفرج 2014