شريف حسن

قراءة في ديوان: “قل للعابر أن يعود نسي هنا ظله”

كانت له أسماء كثيرة، استحال جمعها في اسم. كانت له أسماء كثيرة، ولم يكن له اسم”.

“قُلْ للعابر أن يعود نَسيَ هنا ظِلَّه”، هو الديوان الــثاني عشر للشاعر اللبناني وديع سعادة، وهو الديوان الــثامن بعد الهجرة لأستراليا، وهو الديوان الصادر عام 2012، والأخير له في مسيرته الشعرية الممتدة لأكثر من 30 عامًا.

شعر وديع مر بمراحل تطور وتغير كثيرة، ربما لا تلاحظها بالعين المجردة، فوديع هو حقًا كائن وديع، لا تسمع له ضجيج أو مشاكل أو خلافات؛ شعرية كانت أو اجتماعية أو حتى سياسية، فهو المجاهر من أكثر من 25 عامًا، فلا نغفل تأثير الهجرة والزمن في شعر وديع.

هنا في هذا الديوان، لن ترى كاتبه، لن ترى وديع إلا في قصيدة واحدة من ضمن 30 قصيدة هي نتاج هذا الديوان؛ قصيدة “سفر مع الدخان”، ستجد وديع الرجل الجالس بهدوء في حديقة بيته يتابع خيوط الدخان ويكتب عنها قصيدة توضح وتفصح عن عقلية وخيال من كتب هذا الديوان.

“أخرجتُ من فمي دخانًا ونظرتُ إلى الدخان.

الدخان عملٌ جميل

وعملٌ جميل هو النظر

وأنا لديَّ كلاهما، فيا لجمال حياتي”.

قبل الدخول في تفاصيل الديوان وقصائده وفلسفته، نقف عند كلمة الدخان، وبالأخص جملة “الدخان عمل ٌجميل”، ذكرت كلمة دخان 12 مرة في الديوان، بين القصيدة السابقة “سفر مع الدخان”، وتعامله مع الدخان على أنه شيء جميل، كدخان السيجارة، والدخان في القصيدة الأولي “الطريق”، وكيف يرى الدخان، ويبحث عن نفسه داخله وهو يقول: ” في ذاك الدخان هو حين كان طفلًا، وهو حين كبر… إنه، الآن، في ذاك الدخان. إنه هناك، في الدخان الذي يراه في البعيد”.

الدخان هنا يرجعنا إلى ديوان الأخير قبل الهجرة، ديوان “مقعد راكب غادر الباص” 1986، وبالتحديد القصيدة الطويلة التي تحمل نفس اسم الديوان، والمقطع الذي يتذكر فيه وديع موت والده متفحمًا بعد أن اشتعل البيت وهو داخله، يحكي وديع كيف شاهد المشهد وهو طفل لم يتعدى الــ 14 عامًا، بين الدخان في مقطع والده والدخان في قصيدة الطريق والدخان كعمل جميل، سترى بنفسك التغيرات الطارئة على وديع وحياته وشعره أيضًا.

“شبطين، 6 كانون الأول 1962

أبي -هيكلٌ عظميٌّ محروق يُسند ركبتيه بيديه، وكنبةٌ يخرج منها الدخان

شعاع قمر يدخل من الكوَّة

وعلى المائدة سمكة غير ملموسة، قنينة عرق فارغة، ورقة لوز أمام الباب

كنت أزن 40 كيلو مع الورقة التي أكتب عليها الشعر

40 كيلو مع ابتسامتك، مع نظرتك، مع يدك على كتفي،

مع سمكتك على الطاولة، مع لحمك المحروق

40 كيلو مع دخانك”.

الطريق، القصيدة الأولى في الديوان والأطول، يبدأ وديع ديوانه من النهاية، ولكن لا نهايات وبدايات في الشعر، كل شيء متاح في حرم الشاعر، هو الخالق وهو الخلق، يبدأ وديع بالجو الصوفي، كعابد صوفي جالس في محرابه، زاهدًا في الدنيا وما فيها.

“لم يكن هو السيّد، لم يكن هو المصطفى. كان المرتجفَ مثلهم في الريح. وبالكاد خرج منه صوت: “ما جئتُ لأُكمل ولا جئتُ لأنقض، بل أنا النقصان والأنقاض والنقيض“. وضيَّع صوته، ولم يبحث عنه، ولا بحث عنه أحد”.

صوفية صريحة، وديع يبحث عن نفسه، يبحث بعد أن وصل، يغوص داخل الروح، ولكنه يسبح في الكون كي يجد ما يبحث عنه داخل روحه، وأنا أقرأ القصيدة أتذكر نص “حجر الورد” للكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي، ولكن هذا النص أبسط في الأسلوب، ولكنه بنفس عمق البحث والتيه.

السحلية والكنز.. الحياة والراحة

السحلية في النص هي الروح وهي الباحث والمبحوث عنه، هي أنت وأنا وهي السحلية مجردة من أي رمز أو إسقاط، والكنز هو أيضًا الروح وهو الباحث عن نفسه، وهو أنت وأنا، فالحياة وكر ولكنك لن تجده، فقد دمره الحرب والدم والكائن البشري بكل ما يحمله من شر وكراهية لما حوله ولنفسه أيضًا، البشرية قتلت البشرية، هكذا يقول وديع. فالسحلية ماتت وضاع الوكر وسرق الكنز.

“وإنْ رأيتَ سحْلية لا تنهرْها، اتبعْها، فقد تأخذك إلى الكنز. كلُّ ما تبحث عنه هو لا شيء، سوى وكْر السكينة.

نظر إلى فوق، ولم يرَ. نظر إلى تحت، ولم يرَ. وحين أغمض عينيه رأى: سحْلية ميْتة.

كان ذلك في الماضي، حين كانت عيون. وحين كان للسحْلية وكْر.

وقلْ للسحْلية التي ماتت قبل أن تصل إلى وكرها: لا كنز في الوكر”.

مستمرون مع النص الصوفي التجريدي الطويل، البحث عن الطريق والنفس والذات، وكل ذلك وسط الجماد والنبات، تتشابك معهم إلى حد الالتصاق، وترجع إلى نفسك وحيدًا، كي تجد نفسك كما كنت تبحث، أنت هنا في حضرة هذا النص الراوي والممثل والمخرج والجمهور.

وإنْ أردتَ رفيقًا، فأيُّ رفيق أعزُّ من وحدتك؟”.

التناسل بين القصائد ممتع وجميل، وكأنك في رحلة في متحف بصحبة مرشد يعلم ويحب مهنته، تخرج من قصيدة الطريق منهك من الطريق والبحث، لتجد القصيدة الثانية اسمها “المقعد”.

وانتظرْ أن تنظر إليك عينُ عابرٍ آخر، فلعلَّك تقعد وتستريح فيها”.

هكذا كانت نهاية قصيدة المقعد لتبدأ قصيدة “العيون”، هكذا يستمر وديع بكل هدوء في التنقل بين القصائد، وكأنك في رحاب قصيدة واحدة، وبالأدق والأصح فأنت في رحاب حالة واحدة، وشاعر قرر أن يصل الشاطئ الآخر، لا كي يكتب عن ماذا يحدث هناك، أو أن يلقي علينا فلسفته في الحياة وما نحن غارقون فيه، وكأنه علم ما لا نعلم، أو كأنه وصل للوكر ووجد الكنز.

“نظرَ، ولم يرَ.كأنه كان هو العابرين. ومثلهم لم يعرف إلى أين تذهب نظرته”.

وديع بعد وصوله للشاطئ الآخر، قرر أن يعود ولكن عودة في حيوات أخرى، لعله يجد نفسه وذاته، وربما كي ينسى نفسه وذاته، وربما كي يتخلص من الغيب والصفات الكريهة له، ولكن الأكيد أن وديع يترك لك المجال والخيال كي ترى أنت نفسك بوضوح، كي ترى ما حولك بوضوح، يكتب وديع من طرف الجماد والنبات والحيوانات، لا من طرف الكائن البشري العبوس صاحب الشر والكراهية.

“ابحثْ في التراب قد ترى أصدقاء، وقد تتعرًّف إلى ناسٍ لا تعرفهم.

انبشْ التراب الذي في قلبك، ستجد كثيرين مدفونين هناك، ينتظرون أن يصل مِعْولك إليهم كي يحيوا”.

لكل شاعر جملة أو فكرة يعيش عمره كله يكتب عنها، مرارًا وتكرارًا، وديع لا يملك هذه الجملة أو الفكرة، ولكن يملكه هاجس أكبر من ذلك، هو هاجس البحث، هو المهاجر منذ أكثر من 25 عام، والبحث عند وديع في الأصل بحثان، يبحث عن ذاته في كل ما حوله، في الجماد والنبات والحيوان، في الريح والطرق والمدن والبيوت والغابات، ويبحث عن كل ذلك داخل جسده المتاهة، داخل الروح المتعبة من كثرة البحث والفضولية للغيب وللعبة البحث.

“انظرْ إلى الجبل، حيث يستلقي خروف خرج اليوم من عينك ونام هناك

خروف وُلد تحت جفنيك، من لقاح أضواء غريبة

وأكل عشبًا كثيرًا كان يطلع من قلبك”.

قصائد قصيرة في الديوان، الباطن أكثر من الظاهر في هذه القصائد، ولكنها تفضح السر، فلا سر في جعبته، السر كامن في الظاهر، والظاهر باب الباطن ومفتاح الكنز وبداية طريق الوكر.

“وَضَعَ الطريقَ في صدره ومشى عليها طوال العمر”.

شطران هما كل القصيدة، قصيدة “الرحلة”، يؤكد وديع أكثر من مرة أن الإنسان هو الأساس وهو من يكتب له وعنه وبه، ولكنه يسلك الطرق البعيدة، يبحث عن الإنسان في كل مكان إلا في الإنسان نفسه، وهكذا سيجده كاملًا دون نقصان، يجده عاريًا من كل الأيديولوجيات والأنظمة والتطور والمجتمع والدم والخطايا، الحياة رغبة مرة المذاق.

يجعلك وديع تقف بين بلع الرغبة أو بصقها، أنت في المنتصف بين بين، فوقك سماء وتحتك أرض، حولك أناس وتسكنك الوحدة، تضحك حتى البكاء وتبكي كالأمهات من الفرح، أنت لا هنا ولا هناك، فيقول وديع: “فأين يكون وأين يكونون إنْ لم يكن هناك؟ ولكنْ، أين الهناك؟”، الموت هو اختيار بين الهنا والهناك، بين بلع الرغبة أو بصقها.

“في فمي رغبة مالحة

ولا أعرف كيف أبصقها”.

يجعل وديع الظل شخصًا له خصوصيته وشخصيته، تأكيدًا على الشخصيات الغارقة والمتصارعة داخل الجسد الواحد، لذلك كان اسم الديوان “قُلْ للعابر أن يعود نَسيَ هنا ظِلَّه”، وهو الاسم الموضح لما يتضمنه الديوان ويسكن عقل وديع؛ مما يجعله يداوم على كتاب الشعر وخاصة كتابة ديوان بهذا الشكل، هنا الشخص الذي لم يتخلص من هواجسه ونفسه رغم كل هذه السنين في الحياة وكل هذه الأحداث، ولكنه أيضًا هرب من نفسه إلى الغابة، هرب من المكان والزمان والأشخاص، أصبح كما قال وديع قبل 14 عامًا في ديوان “غبار”، وبالتحديد في قصيدة “جمال عابر”: “العابرون سريعًا جميلون. لا يتركون ثقلَ ظلّ. ربما غبارًا قليلًا، سرعان ما يختفي”، فالفكرة في ذهن وديع منذ القدم، ربما كان هو الوقت المناسب للحديث الجزء الثاني؛ الظل، وكأن إشكالية الظل هي الإشكالية التي لم يجح في حلها حتى الآن، وهي هل سيصبح ثقيلًا أم ينقذه أحد ويذكره بأنه نسى ظله؟

“قلْ للعابر أن يعود ويجمع زهور ظلّه، وناسَ ظلّه، وقمر ظلّه، وشمس ظلّه، وموتى ظلّه…”.

ينهي وديع ديوانه بسؤال آخر، وإشكالية جديدة وربما تكون إشكالية الديوان القادم، والذي طرحها في القصيدة القصيرة “كيف”.

“كيف للسابح أن يصل

والبحر يغرق؟”.

نشر في موقع التقرير