ريشة عود تتحرك بمرونة المتمرس والمكتمل بالتوحد مع عوده، متربعا على “الكنبة”، غير مكترثا إلا باللحن الحزين الذي يعزفه. أغنية وهبت عمري للأمل، أغنية خلقت قبل 40 عام، ليأتي شاب من لبنان يعيد غنائها برفقة الأصدقاء، في جلسة تشعر بكل الود الصادر منها، جلسة أناس يحبوا حقا الغناء والموسيقى، يحبوا حزن هذا اللحن، يشعروا بقربه منهم قرب الموت، لكنهم مبتسمين وقادرين على الغناء.

خاض إمام تجارب مع شعراء أخرين غير أحمد فؤاد نجم، من ضمن هذه التجارب، تجربة الشاعر أحمد فؤاد قاعود، صاحب كلمات الأغنية الأكثر حزنا لإمام من وجهة نظري؛ “أحزان القرد”، والمشهورة باسم “عجين الفلاحة”، و”مرمر زماني”، التي بنيت على أصل فلكلوري، و”وهبت عمري” وعدة أغاني أخرى، المشترك في الثلاث أغاني بجانب نجاحهم، هو إحساس اليأس الكامن في الكلمات، ليس يأس صادر من شخص بائس أو مهزوم أو مكتئب، لكنه يأس النضح، يأس من يعلم بخبايا الأمور، فقدان الأمل، رغم استدعائه ومحاولة الوصول له.

الحزن كامن في أحزان القرد،  ما بين الضعف وعدم المقاومة، حتى عدم تغير شيء في المشهد، الأغنية من بدايتها وأن تعلم إنك ستظل هنا في أحزان القرد المغلوب على أمره، لا مفر ولا مناص من كل ما أنت محاط به، قلة الحيلة احساس مسيطر عليك طوال الأغنية، تشعر بالحزن لا بالثورة. بعد فشل الثورة كان للأغنية وقع أخر، بل بعد كل فشل شخصي يكن لأحزان القرد وقع مختلف على النفس، بالطبع لحن إمام على مقامه المفضل “العجم”، وطريقة أدائه كانت عوامل مهمة في تأكيد هذه المشاعر.

وهبت عمري للأمل ولا جاشي، اليأس الناضج عندما يتورط بين الوطن والحبيبة، بين مساحتين من الأمان؛ المادي المتمثل في الوطن، والمعنوي المتمثل في الحبيبة،  فقدان تلك المساحات، أو بمعنى أكثر دقة، الهزيمة في تلك المساحات، جعلت الأغنية تخرج بهذا الشكل، إقرار باليأس والهزيمة، كنا نحلم بافضل من ذلك، لكن الهموم سباقة، والغيوم خناقة، والحلوة مش مشتاقة، كلها أشياء تمنع أي أمل أو فرح، رغم أنه لا يترك نفسه لهذه الفرضية بشكل تام، هنا اليأس يحمل الكثير من النضح، اليأس نفسه لن يستمر، والوعد دين، الوعد دين.

خلال الأشهر السابقة اكتشفت فيديو غناء مريم صالح لأغنية “وهبت عمري للأمل”، بعد ما أنهيت الفيديو، كان كل ما يشغلني هو إعادتها مرة أخرى، وأن أقوم بالبحث عن عازف العود المرافق لمريم، عازف العود الذي يغني وكأنه جالس في كهفه الخاص، عابر سبيل يغني في أحد الشوارع الجانبية لبضعة أطفال غير موجودين إلا في خياله، ويردد عليهم بنبرة أب وخبير في الحياة، رغم سنه الصغير “العشق زين”.. ويكررها وهو يحرك يده كأنه يتوعدهم أو يحذرهم في حركة سريعة، حتى تعود يده إلى مكانها الأصلي في رحاب الأورتار والأنغام والسلام النفسي..

وهبت عمري للأمل ولا جاشي

وغمرت غيطي بالعرق ما عطاشي

ورعيت لمحبوبي هواه ما رعاشي

والليل عليّ طويل  ..

وأنا العليل ..

موجود دوا بس الطبيب ما رضاشي

والصبر فين؟!

أعترف أنني أحببت نسخة مريم عن النسخة الأصلية، ذلك لم يحدث من قبل مع أغاني الشيخ إمام، إلا في أغنية “صياد الطيور”، والتي قدمها جورج سوف بلحن مختلف للملحن شاكر الموجي، كان اللحن أجمل بكثير من لحن إمام، حتى يُقال أن نجم أقر بذلك، لكن في النهاية كان لجورج لحن خاص به ولإمام لحن آخر، لكن هنا التفضيل من باب الأداء، مريم أضافت لمحة من الزمان والمكان على أدائها، استدرجت اللحن والكلام إلى مساحتنا الحالية، ومساحتها الشخصية، بكل هزائمها العامة والخاصة، بكل الأحلام الوردية الطفولية، بكل النار التي التهمت ضحايا حريق مسرح بني سويف.

مريم قررت أن تعدد وتنوح، أن تبكي على العام والخاص، تعترف بالهزيمة، وتصرخ بها، تظهر الضعف واليأس وفي نفس الوقت الأمل الخامل في صدورنا، لم نشف منه حتى الآن، ربما كنا أصغر بكثير من كل هذا التخبط والهزيمة، لكنه حقيقي، ولا مفر منه، مريم هنا قررت مواجهة نفسها بالحقيقة، ومواجهتنا نحن أيضا.

يا ليل يا عين يا أرض يا معزوقة

يا كاشفه من شوقك خطوط مشقوقة

لما حضنتك  والبذور مرشوقه

غنيت وفي المغنى فرضي للسمرا أرضي ..

هيَّ  اللي باقيه ع الزمن معشوقه

كان عازف العود، هو عماد حشيشو، الذي اكتشفت خبر رحيله بعد فترة قصيرة من اكتشافي له، رحل عماد في 9 مارس السابق، آثر حادث طريق في لبنان، بعد تسجيله أغنية جديدة كان هو بطل العمل فيها، كممثل بجانب غنائه وعزفه، هل هي صدفة أن يكون اسم الفرقة الذي هو واحد من مؤسسينها “الراحل الكبير”، كنت مستنكر إني أول مرة أسمعه مع مريم، كيف لم اسمع به من قبل؟!، كيف لهذا الصوت الرخيم يمر دون أن أتورط معه في حزنه الشخصي، وأحكي له عن أحزاني أيضا، كانت أغنية وهبت عمري للأمل كالرثاء، لكن دون تحديد من الراحل، الآن أصبح كل شيء منطقيا، الآن أصبح يوجد راحل يردد جملة “العشق زين.

 

أخبرت مريم إن  الأغنية رائعة، لكن لم يمهلني القدر للتعرف على عماد وأخباره بإعجابي بالأغنية، أو سؤاله عن لماذا “وهبت عمري للأمل ولا جاشي”، أتخيل صوت عماد وهو يقول “الصبر فين يا سنين طوال وليالي.. عيني على الجمل الأصيل العالي.. لمّا ينخ بحمل من أحمالي.. لكن في كل صباح بانسى الجراح”.. وتترد في الأفق “لكن في كل صباح بانسى الجراح”، أتساءل كيف حال عوده الآن هل نجى أم رحل مع عماد، أم أصبح وحيدا يصلح فقط لعزف أغنية واحدة.. “وهبت عمري للأمل ولا جاشي”.