شريف حسن

بعد ثورة 25 يناير، أصبح لدي محطة فاصلة في تاريخي الشخصي، وتاريخ المكان “الوطن“، “ده قبل الثورة ولا بعده؟!“.. هكذا تعود لساني على هذه الجملة، حتى لو كان الحديث عن أمر تافه، كذكرى جلسة على القهوة، أو حفلة لمحمد منير، هكذا أصبحت الثورة أمرا فاصلا في كل من شارك فيها، فاصلا في كل شيء، في أجسادنا وأرواحنا، وإيماننا وطريقة تفكيرنا وخططنا للمستقبل، حتى كتابة الشعر وتذوقه اختلفت عن قبل الثورة.

نحن اليوم مع ديوان “كهربا رباني“، للشاعر الطبيب “يحيى قدري“، وهو الديوان الثاني له بعد تجربته الأولى “نيجاتيف“، كهربا رباني هو الديوان الذي وضح صاحبه في أول صفحاته: «حاز هذا العمل على جائزة المسابقة الأدبية المركزية لعام 2009 – 2010.. كتبت قصائد هذا الديوان في الفترة ما بين 2008 – 2010».

إذن نحن أمام تجربة كاملة قبل الثورة، كان الديوان رحلة مع يحيى، يحيى كما قال في الإهداء عن نفسه: “أحسن واحد يطحن الناس بودرة ويسفّهم ع الريق ويعاني أعراض انسحاب“، موضحًا قبل اسمه، سبب ذلك في نفس الإهداء، «لأبويا وأمي.. الجناحين الفـَرد اللي ما قدروش يرفرفوا بنفس السرعة.. فكان كل الشرار اللي طالع مني دلوقت»، كان الإهداء يشمل الأهل والأصدقاء، والشعراء؛ مدحت منير، إبراهيم الجهيني، أمل جمال، حمدي زيدان، حمدي خلف، سيد عبد الرحيم.

كانت نهاية الإهداء -الذي كان في شكل شعري- هي بداية الديوان: «وأخيرًا للبنت الطيبة جدا.. حتة الموز اللي وقعت سهو جوه الجيلي ومن خوفي عليها تسمرّ حطيتها في التلاجة ومن ساعتها إيديا ورا ضهري وباب التلاجة بيكهرب».

هكذا جاءت البداية منطقية؛ «سايق عليكي النبي وانتي بتحضنيني ما تعصريش بالجامد خايف أثبت ع الوضع ده وأنتي تختفي»، إذن نحن مع الأنثى، الأنثى هنا هي الحلم، هي الحياة؛ بكل ما فيها من تباين وتشابك، مع الفرص الضائعة قبل المكتملة، نسبح في الحياة مرتدين عين يحيى لنرى العالم من خلالها.

25 قصيدة، ذلك عدد قصائد الديوان، الديوان غير مقسم إلى أجزاء، يمكنك أن تشعر في القراءة الأولى أنه قصيدة طويلة تم فصل بعضها عن بعض، ولكن في القراءة الثانية، يمكنني أن اقسم الديوان إلى أربع فصول أو أجزاء.

الفصل الأول: تفاصيل كافـيـَة للرومانسية

يسبح يحيى في الفصل الأول مع وإلى الحبيبة، وربما في روح وجسد الحبيبة أيضًا، والعكس أيضًا، 9 قصائد بطلها الأول والوحيد هو الأنثى الحبيبة، بكل أنواع وأشكال العلاقة، وتشابكها وتباينها، يجيد يحيى تحويل الذاتية إلى حالة عامة، ويعرف كيف يلتقط القصيدة من جلسة على قهوة، شاعر كدودة القز، ينتج القصيدة على مهل، يعرف كيف يحترم الوقت، فتحترمه القصيدة.
“أوقات كتير
يطلعلي قلب
وانتي السبب
الله يسامحـِك“.

مع نهاية قصيدة “بطعم الكراميل“، مواجهة الشخص مع نفسه، تبدأ قصيدة ماريان، وفكرة الحبيب الصديق والأخ الأكبر والسند، كانت المفردات واضحة وصريحة، غير مفتعلة، وكأنه حديث ذاتي، تقرأ النص وكأنك تخاطب روحك.

“غريبة عليك
تيمة منزوع الشهـوة
بتخليك دايما..
تمارس دور الأب
الـ غير شرعي
فتبوس راس.. أطهر رقبة
لِبسـِت آية الكرسي
وتحطها.. جنب الحيط“.

هكذا ينتقل يحيى بين لحظات عشق، هرب، خوف، نسيان، «عزفك المنفرد على كنبة الصالة ومجهودك الجبار في الدخول والخروج م الحيطان عشان تمنع روحك عنها»، يحيى شخص يهيم عشقًا بالتفاصيل البسيطة، طفلا بارا لفترة الثمانييات والإنجازات الصغيرة، يرى المشهد الرومانسي في: «وتقشر سوداني في بـُقك وانتو بتتفرجوا على محمود حميدة في بحب السيما مع شوية كاكاو سخن».

الهروب من الشهوة لم يكن في شكل الأب غير الشرعي، ولكنه جاء بأكثر من شكل وطريقة، مثل الحيرة بين المشاعر وإشكالية التعبير، والصراع بين المادي “الرجل”، والمعنوي “الأنثى”، «مين المفروض يشتهي التاني بقوة ذكر ومين يداوي بحنية أنثى. قلبين أكبر من إن حد يطبطب عليهم وأطهر كتير من إنهم يتفقوا ع الشهوة»، أو في الهروب إلى الحب الطفولي كما في قصيدة “مكعبات”: «مش لايقة علينا لعبة الكبار وأكرم لنا نرجع مرايل عيني تنطرف تنفخي فيها تقعي م العجلة أبوس ركبتك».

جاءت قصيدة “لوليتا“، في شكل سينمائي، ترصد مشهدا مكتمل الأركان، تعلو المشهدية، وينتقل بين التفاصيل وكأنه سيناريو. «يتولد السيناريو الخبيث لوقوع كوباية البيبسي وإزاي ها تكح وتجيلها كريزة الربو وينتهي المشهد لصالحك.»، لتنهي القصيدة بمفارقة مع أول مقطع في النص: «في التريقة على قــُصرها.. عنيها الضيقة»، تأكيدًا على فكرة المشهدية: «وكل الكُحل اللي كانت بتحُطه علشان يوسّع عنيها ما غيرش اقتناعها إن ربنا.. خلق عنيها ضيقين بس عشان ما تشوفش حد غيرك»، مع استمرار فكرة الهروب من الشهوة.

“يمكن..
لو اتقفل عليكو باب واحد
كل الخدود والشفايف
مش ها تعمل حاجة غير الطبطبة..
وأكبر ذنب ممكن يُـرتكب
لعبة السلم والتعبان
واللي يتغلب
ينزل يشتري لوليتا“.

الفصل الثاني: المساواة في الحزن

في نصين متتالين، يعرض يحيى صورة البكاء على الأطلال، الوقوف في محطة الذكريات والعلاقة الأخيرة، من ناحية الرجل في “تفاح أخضر“؛ «قلبي اللي اتعودتي تفطري منه كل يوم الصبح مش قابل أي شفايف تانية رغم الادعاءات إن كل الشفايف واحدة»، ومن ناحية الأنثى في نص “تشوفك.. وإنت نايم”؛ «خلّاها ما تتمنّاش م الدنيا غير إنها تشوفك وأنت نايم. فـ دهنِت حضنها شوكلاتة جايز تفضل جنبها وقت أطول».

“إلا إنه..
حافـظ طعم التفاح الأخضر
في كل شقوق شفايفك“.

للمفارقة استخدام التفاح عند الحديث عن شوق الرجل، ومشكلة بداية الخلق، وعند الحديث عن نفس حالة الشوق في الأنثى؛ كان من خلال “شوكلاته“، وهي الأقرب للأنثى من الرجل، هذا الاختلاف كان توضيحًا وتأكيدًا أن لا للقواعد، وأن الحب رجل كفيف ذو ابتسامة غير مفهومة.

الفصل الثالث: الحوار مع الذات والجلد أيضًا

“ليلاتي تزوره
كهربا ربّاني
واصلة في غـيـرُه
قاطعة في ذاتــُه
بتحاول تِجلي سواد السم
والقلب معاند
من غير قصد“.

جاء اسم الديوان في المقطع السابق، وهو من قصيدة “تيار متردد“، ربما حن يحيى في هذا المقطع إلى ديوانه الأول، وروح التفعيلة البسيطة في المقطع السابق، وربما كانت الموسيقى هنا غريبة على الموسيقى العامة للديوان، وربما كان هذا عن قصد، أو من غير قصد كمن نهى المقطع.

في هذا الفصل المكون من 6 قصائد، تبدأ بالتيار متردد، لتنتهي بقصيدة “إله كهربا“: «هـو.. إله الكهربا اللي بتسجد له كل عواميد أحمد ماهر وهوّ مروّح ساعة الفجر». في هذا الفصل يعيش يحيى مع الذات، يجعلك تغوص مع نفسك فقط، اجلد ذاتك بذاتك، المواجهة مع النفس، لذلك ترى الوحدة في أقوى صورها «صاحب ألذ تسبيحة عياط مكتوم ما بيسمعهاش غير الشحاتين».

القصائد الأربع الأخرى تحوم حول نفس الفكرة، وتستمر لعبة التفعيلة والمفارقات اللغوية البسيطة في قصيدة “نبات شيطاني“، «مع إنك مش ابن حرام إلا إن الحرام حبّك»، ويظهر الطب وتأثيره في قصيدة “قلب مصدي“، وكلمات مثل تحليل وأشعة، مع الاستمرار في فكرة التعري وكشف الذات: «طالع في الصورة قلب مصدِّي على سيخ مسموم بيخـُر أسفلت»، أو قصيدة “جناحات ألامونيا“؛ «مبروك الروح ملعون الروحة مسموم النبض في قلب رصاص».

الفصل الرابع: للعشق بداية ونهاية

بداية من أسماء القصائد، ومحتواها، ترى فكرة النهاية بوضوح، ترى آثارها وتشم رائحتها من بعد، يقول يحيى في نص “مصلوب على قلبها“: «لكن الفضيحة كبرت لما كنت بتتنفض وسط الميكروباص وانت ساند ع الشنطة بــ وشـّك ومحدّش فاهم.. الجناحات اللي بتطلع من ضهرك والدم السايل على إيدك وكل العروق السودا دي ذنب مين».

يتسمر يحيى في عرض صور للنهايات بكل الأشكال: «مقتنع تماما إن الحضن م الضهر ذنب غير كامل»، أو في قصيدة “فولت عالي”، «وطريقتك الصادمة في إنهاء العـلاقات وإحساسك الطاغي بالمسؤولية تجاه أي روح بـِكر بتعدّي الشارع».

ومع الثلاث قصائد الأخيرة، تشعر وكأنها صرخة النهاية، لا يهم أي شيء، كشخص يتعرى قبل الموت، أو قاتل يواجه قالته بكل صراحة، من نص “بنزين النشوة“، والمصارحة والتعري: «من أربع حروف هيّ بنزينك للنشوى اللي بتخليك تقفل قلبك وتغير الشريحة وتدور على ضحية جديدة»، ثم نص “الصاعق”، ويكفي اسم النص، وكان النص الأخير “حساسية” ومواجهة العالم الخاص.

“مش فاهمين
إن كل عضّة جديدة في روحك
ليها لذّة مُـفـرِحة
كأن صاحبها سايبلك ذكرى
تقدر بيها تحضّر روحه
وتحييه جواك“.

في نهاية الديوان، نحن أمام ديوان بطعم ورائحة ما قبل الثورة، ديوان خال من الدم المباح، والروح المنكسرة، أو الأحلام الزائفة، ربما هناك قصائد ضعيفة، ولكن هناك ما هو أوضح من ذلك، هناك شاعر يتطور بشكل واضح وثابت، بداية من ديوانه الأول مرورا بهذا الديوان، نهاية بما قرأت من مسودة الديوان القادم، يحيى يخرج من تأثره ببعض المدارس والشعراء، كتأثره الواضح بخفة وجمال “مدحت منير“، ولكن يخرج من كل ذلك لتظهر شخصيته وروحه تدريجيًا، أتذكر جملة محمود درويش عن أول ديوانيين له، قائلًا: “خرجت من عباءة نزار قباني“.
ونتخم المقال كما ختم يحيى ديوانه، من قصيدة “تفاصيل كافـيـَة للرومانسية“:

“كلامك علطول
إنك زعلان من ربنا
عشان المشهد نازل تراجيدي
وهيّ بإيمانها المستفز
دايما تقنعك
إن كل التفاصيل دي
كافية قوي للرومانسية“.

نشر في موقع التقرير عام 2015