شريف حسن

للأطفال مساحة وتاريخ مهمان في مسيرة السينما المصرية. وقد تركت أدوار كثيرة لأطفال بصمة واضحة في أغلب مراحل السينما، لكن تبقى الطفلة الأولى في السينما المصرية على مدار تاريخها، هي القطقوطة ياسمين، الطفلة دهب، فيروز هانم، أو الطفلة المعجزة.. فيروز.

العائلة الفنية والمكتشف الحقيقي

في 15 من شهر مارس عام 1943، ولدت الطفلة بيروز، لأب عازف كمان أرميني يعيش في القاهرة، يدعى آرتين كالفايان، الذي يرجع أصل عائلته لمدينة حلب في سوريا، ولأم تهوى الغناء. نشأت بيروز في أسرة تهوى وتعمل في الفن والموسيقى، وكانت من طفولتها تحب الغناء في حفلات الأسرة.

اكتشفها صديق والدها، الفنان “إلياس مؤدب” في إحدى الحفلات، وصنع لها مونولوجاً تغنيه وترقص عليه، واستمرت في تقديم الأغاني في الحفلات، حتى أقنع مؤدب والد بيروز بموهبة ابنته، وبأهمية الحفاظ عليها وتقديمها للساحة الفنية.

وبالفعل، قدمها “مؤدب” في حفلة للهواة في ملهى الأوبرج، ونجحت نجاحًا باهرًا، وكافأها الملك فاروق، الذي كان ضمن الحضور، بمبلغ خمسين جنيهًا، وتهافت عليها المنتجون، لكن مؤدب اختار لها المنتج والممثل “أنور وجدي”، كل هذا وعمرها لم يتعد ست سنوات.

 

وقّع أنور وجدي عقد احتكار مع والدها، يُلزم الأول بدفع ألف جينه عن كل فيلم تقوم بيروز ببطولته، وبدأت عملية تجهيز البطلة، بتعليمها الرقص على يد المدرب “إيزاك ديكسون”، وإسناد كتابة قصة الفيلم وأغانيه إلى أبو السعود الإبياري، والتلحين إلى محمد البكار، بالإضافة إلى اثنين من كبار ملحني الاستعراضات والمونولوج على مدار تاريخ السينما المصرية؛ محمود الشريف ومنير مراد الذي عمل مساعد مخرج في الفيلم نفسه، وكان أنور وجدي هو كاتب السيناريو والبطل والمنتج والمخرج. كان وجدي باختصار صاحب هذا الاختراع، صاحب هذه التحفة المعجزة.

في تتر الفيلم الأول “ياسمين” عام 1950، يغير أنور وجدي الباء في اسم “بيروز”، بفاء، لتصبح فيروز، ولتظهر في أول مشهد لها على شاشة السينما في دور شخصية من أساطير السينما على مدار تاريخها على الأرض؛ “تشارلي تشابلن” في استعراض “حلو يا حلو”

تغني فيروز في الفيلم ست أغاني، جمعت فيها أغلب أشكال الغناء الاستعراضي، بين استعراض منفرد تقوم فيه بدور البطل، أو استعراض مع أصوات أخرى، مثل الذي الذي قدمته مع أنور وجدي والراقصة “جينا” (راقصة الاستعراض مرتدية القناع)، وقدمت فيه فيروز أشكالًا لأغلب أنواع الرقصات المشهورة وقتها؛ تانجو ورومبا وكلاسيك وبالية وشرقي، بكل خفة وجمال، وبثقة بطلة متمرسة في أداء أفلام الاستعراضات. وكان من ضمن ما قام به منير مراد في الفيلم، تسجيل رقصة الكلاكيت، فقد كان هو الوحيد وقتها المتمكن من تلك الرقصة، لتحرك فيروز نفسها على إيقاع الصوت المسجل.

 

غنت فيروز أغاني أخرى مثل “أنا كتكوتة نونو”، مرة في شكل استعراض ومرة بشكل منفرد، دون أي تدخل موسيقي، وأغنية النهاية “مبروك عليكي عريسك الخفة”، لكن تبقى الأغنية التي لاقت نجاحًا مبهرًا في الفيلم، وظلت من علامات مسيرة فيروز بأكملها؛ أغنية “معانا ريال”، التي قدم فيها محمد البكار لحنًا سهلًا ومميزًا، استخدم فيه الآلات النحاسية بشكل مبهج وجميل، لتخرج لنا أغنية من أحلى أغاني السينما المصرية.

 

نجح الفيلم نجاحًا كبيرًا، وحققت الطفلةُ المعجزة معجزةً حقيقية، ملموسة ومحفوظة، في تاريخ السينما، وفي أول أيام عرض الفيلم في سينما “الكورسال” بشارع 26 يوليو، استقبلت الطفلة فيروز الأطفالَ بالهدايا. وخاب ظن محمد عبد الوهاب الذي كان قد خاف من الرهان غير المضمون في الدخول في إنتاج الفيلم مع أنور وجدي، ورغم تهنئته لوجدي بعد نجاح الفيلم، إلا إنه لم يلحن لفيروز طوال مسيرتها الفنية.

الجمال والمال

يكمل أنور وجدي الطريق، يصنع أفلامًا ستبقى علامة في تاريخ السينما المصرية، ويجني ثورة طائلة نتيجة هذا الاختراع المسمى “الطفلة المعجزة”، ويقدم مع عباس كامل، الذي كتب القصة وأخرجها، فيلم “فيروز هانم”؛ تأكيدًا على الاكتشاف، فصاحب الاسم؛ هو بالأساس صاحب الاختراع، ويكتب فتحي قورة أغاني الفيلم، ويقوم محمد البكار وعلى فراج بتلحينها، ويكتمل الفيلم الاستعراضي بالنجمة الكبيرة “تحية كاريوكا”.

في ذلك الفيلم أكدت فيروز كونها نجمة بحق وأن نجاحها الأول لم يكن صدفة، قدرتها على أداء كل الأشكال في التمثيل والغناء، من أغنية حزينة “ما كانش والله العشم“، لأغنية اجتماعية للتوعية بالتبرع للأيتام “أهو ده اللي يدوم”، وعدة استعراضات مختلفة الشكل والشخصيات، مثل “استعراض الملاية اللف”، و”الحارة الشعبية”؛ وكأنه فيلم تسجيلي صغير عن شكل الحارة المصرية في بداية الخمسينات وقبل الثورة، نهاية باستعراض النهاية “راح الوفي والأوفياء” الذي قدمت فيه عرضًا صعبًا وطويلًا، تقمصت فيه أشكالًا وأجناسًا عديدة.

كتب فتحي قورة النسخة الأولى لأغنية “أنا كل ما أقول التوبة”، بصوت فيروز، وبصحبة رقص تحية كاريوكا، وهي الأغنية التي غناها عبد الحليم حافظ على نفس المذهب بعدها بحوالي تسع سنوات، وبالاستعانة بكلمات عبد الرحمن الابنودي.

“صورة زفاف”.. الفشل رغم دعم الثورة

الفيلم الثالث لفيروز، “صورة زفاف” 1952، الذي أخرجه “حسن عامر”، وقدمته بعيدًا عن أنور وجدي، لم يحالفه الحظ، وسقط، رغم تقديم فيروز أغنية لدعم الثورة والجيش، بعنوان “إلى الأمام يا بنات كلنا مجندات”.

 

لم يشفع للفيلم أيضًا وجود نجم مثل إسماعيل يس، وتقديمه دويتو غنائي مع فيروز بعنوان “يا حلاوة يا لوز”، كما قدمت فيه فيروز أغنية “المدرسة” بمفردها، ولكن الفيلم لم يحمل بهجة وجمال وانطلاق فيروز. كانت الخلطة السرية في يد صاحب الاختراع، أنور وجدي.

 

“دهب”.. نهاية الكنز

مثّل فيلم “دهب” الرجوع لفريق النجاحات والأموال، أنور وجدي بصحبة أبو السعود الأبياري، ومجموعة من أهم كتاب وملحني الأغاني الاستعراضية في ذلك الوقت، كلمات بيرم التونسي وفتحي قورة، وألحان أحمد صبره، وعزت الجاهلي، ومحمد البكار، ومنير مراد، الذي رقص رقصة الكلاكيت الشهيرة في أغنية “بحلقلى وبصلى”، وهي من ألحان عزت الجاهلي وكلمات فتحي قورة، وجرى اللعب فيها على إيقاعات عديدة وعلى أغنية ليلى مراد “اتمخطري يا خيل”، واللعب على التراث في مقطع “سلامات سلامات”.

هنا تنطلق فيروز كالطفلة المحرومة من التنزه. كانت المعجزة عطشانة لفيلم يحتوي طاقتها الفنية والاستعراضية المهولة. قدمت استعراض “البلياتشو” مع إسماعيل يس وأنور وجدي، واستعراض “الدربُكة”؛ الذي قلدت فيه تحية كاريوكا وسامية جمال وبديعة مصابني، ولعبت على الفلكلور الشامي من فتحي قورة في مقطع “آه يا أسمر اللون.. حياتي الأسمراني”.

من نوادر المسرح أن في مسرحية “الشايب لما بيدلع”، كانت ماري منيب تقدم دور صاحبة بقالة، وبشارة وكيم يقوم بدور زبون جائع ومفلس، يحاول الاحتيال عليها في الميزان كي يأكل مجانًا، وكان بشارة يصر على الأكل بكثرة والعمل على إطالة المشهد، وبعد عدة تهديدات من ماري منيب، قامت بوضع شطة في أحد قطع الحلوى التي كان يأكلها بشارة، وحدث ما حدث وتعالت صرخاته على المسرح، وتعالى أمامها تصفيق الجمهور فرحة بالأداء المبهر من ناحية بشارة وكيم. هذا هو نفس مشهد الاحتيال على الميزان الذي قدمته فيروز بصحبة أنور وجدي والممثل شفيق نور الدين، في أغنية “شوف يا عزيزي ادي نصيبك وادي نصيبي“.

وما حدث مع فيلم “ياسمين” وأغنية “معانا ريال”، حدث في “دهب”، ونجحت أغنية “كروان الفن وبلبله”، كلمات بيرم التونسي، والتي لحنها محمد البكار على نفس لحن “مضناك” لمحمد عبد الوهاب، وقدمتها فيروز وأنور وجدي.

الأب منتجًا.. محاولات صناعة الخلطة السرية

بعد النجاح العظيم والمبهر، والمكاسب التي حاز عليها أنور وجدي من الطفلة المعجزة، قرر والدها إنتاج أفلام بنته النجمة الصغيرة بنفسه، وقدم لها فيلم “الحرمان” 1953، وأشرك معها لأول مرة بقية العائلة، مرفت والصغيرة نيللي، وكتب الأغاني فتحي قورة، وشارك منير مراد في تلحين بعضها، وقدم محمد فوزي لأول مرة ألحانًا للطفلة المعجزة، فقّدم لحناً، مبهجًا وراقصًا كعادته، لأغنية “صفر يا وابور صفر تاني” والتي لعب قورة في كلماتها على التراث كعادته أيضًا.

وتضمن الفيلم أول ألحان عبد العزيز محمود أيضًا، وقدم أغنية “البسكلتة” إهداء للصيادين والإسكندرية، ولحن واحد من أحلى استعراضات فيروز؛ استعراض “يا مم يا مم“.

مر عامان، وأنتج والدها فيلم “عصافير الجنة”، وكانت البطولة للثلاث أخوات، فيروز ومرفت ونيللي، واللائي قدمن عدة تابلوهات راقصة، باليه، أسباني، استعراضي. وكانت فيروز، التي لم تكمل عامها الثاني عشر وقتها، هي من صمّمت رقصات الفيلم كله.

كما شارك الثلاثي في تقديم أغنية “إحنا التلاتة، الحاتا باتا، سكر نباتا وشرباتا”، وبعدها بسنوات قدمن أغنية “مش فاهمين”، التي حكت فيها الأخوات الثلاث عن أنفسهن والاختلاف بينهن، وغنت فيروز ومرفت بصحبة المطرب عطية طلعت أغنية “طلع مظلوم“، تأييدًا للرئيس جمال عبد الناصر وللاشتراكية.

رحيل مكتشف المعجزة.. وانطفاء النجمة

مع فيلم “عصافير الجنة” وفي العام نفسه، رحل مكتشف فيروز وصاحب الاسم، أنور وجدي.

ورغم أنه كان معروفًا بالبخل الشديد، لدرجة استرجاعه كل ملابس واكسسوارات فيروز بعد انتهائها من المشهد، لكنه ظل الوحيد القادر على استخراج الدهب من المعجزة، ومع رحيله كانت النهاية لأجمل أطفال السينما المصرية، بل لأحد أهم وأجمل وأشمل نجمات السينما المصرية.

تعلم فيروز أنها ليست الطفلة الأولى التي تنصع بكل هذا المجد، حيث قالت في أحد البرامج الإذاعية وهي صغيرة، إنها تعرف طفلات أصبحن نجمات سينما، مثل فاتن حمامة، وشيرلي تمبل ومارجريت أوبرين.

مع بداية سن المراهقة، وبعد توقف عامين، قدمت فيروز أربعة أفلام خلال ثلاث سنوات. بعد انضمامها لفرقة إسماعيل يس. قدمت مع إسماعيل يس فيلمين من الأربعة؛ هما “إسماعيل يس للبيع” و”إسماعيل يس طرزان”. لم تنجح الأفلام، وحاول الثنائي، فتحي قورة ومنير مراد، صناعة أغاني تليق بسن النجمة الجديد، كأغنية “قلبي دق دق”.

 

ولكن النهاية حلت مع فيلمي “بافكر في اللي ناسيني”، و”أيامي السعيدة”،  الذي قدمت فيه أخر أغانيها، وقام بتلحينها بليغ حمدي، الذي أصبح صاحب أخر أغنية لها في السينما.

فيروز والست

غنت فيروز في فيلمها الثاني “فيروز هانم”، أغنية على نفس لحن “أنا في انتظارك” لأم كلثوم. ولكن مع فتحي قورة ومحمد البكار، كان لفيروز رأي أخر في الانتظار، “أنا في انتظارك.. تعالى”.  لم تكن هذه المرة الوحيدة التي تقدم فيها فيروز أغنية ساخرة تنويعاً على أغنية لأم كلثوم، فقد قدمت أيضًا مع فتحي قورة، أغنية “سيرة البرد”، بنفس لحن أغنية “سيرة الحب”، قالت فيها “طول عمري باقول لا أنا قد الصيف.. وحرارة الصيف.. ولا عيني قد ترابه”.

 

(أغنية سيرة البرد على نفس لحن “سيرة الحب”.. فيروز الصغيرة.. كلمات فتحي قورة والشكر لبرنامج “أغنية مشهورة” والإذاعي الأستاذ إبراهيم حفنى).

اعتزلت فيروز وهي مراهقة في سن الـ16، اعتزلت بعد أن رحل صاحب الخلطة السرية، اعتزلت بعد فشل الجميع في استخراج الكنوز التي بداخلها. لم يعرف أحد كيفية التعامل مع المراهقة فيروز وتقديمها في ثوب جديد، وكأن السر كان في تحويل حرف الباء لفاء في اسمها. ومع رحيل صاحب السر، اختفت فيروز، ورجعت الباء مكان الفاء، وانطفأت الموهبة، تزوجت بعد الاعتزال بزميلها في فرقة إسماعيل يس، الممثل بدر الدين جمجوم، وأنجبت منه طفلين، أيمان وأيمن.

عاشت فيروز بقية عمرها، بعيدة عن الأضواء والميديا بكل أشكالها، لم تتاجر بتاريخها، ولم تبتذله نهائيًا، وظهرت في برامج قليلة، ورحلت في هدوء في نهاية يناير الماضي وهي في الثانية والسبعين من عمرها، وحتى الآن وربما لأجلٍ غير مسمى، ستبقى فيروز هي أشهر طفلة في السينما المصرية، أكثرهم موهبة وحضورًا وبهجة.

نشر في موقع مدى مصر عام 2016