شريف حسن 

الحديث عن محمد خان وأفلامه ليس بالأمر الهين، وخاصة لو كنت وقعت في عشق كاميرا خان وتفاصيلها الإنسانية الصغيرة والبسيطة، لكنها محاولة للكتابة عن هذا المخرج الملغم بالشغف للسينما وأدواتها، العاشق للكاميرا وحركاتها، السابح في بحور الناس وتفاصيلهم الصغيرة، الصامت أمام الجمال، والمنصت لهذا الصمت، الحديث هنا سيكون عن أحد أهم أفلام خان في مسيرته الفنية، فيلم “فارس المدينة” 1993.

قبل الدخول في الفيلم نفسه، في نظرة سريعة على مشوار خان قبله، نرى في رصيده 14 فيلمًا على مدار 14 عامًا، إذن نحن أمام مخرج وضحت فلسفته للنقاد والجمهور معًا، تنوع في أفلامه، وقدم أهم أفلام في تاريخ مسيرته مثل: “ضربة شمس وطائر على الطريق وموعد على العشاء والحريف وخرج ولم يعد ومشوار عمر وعودة مواطن وأحلام هند وكاميليا”، فماذا سيقدم في فارس المدينة؟

في عام 1988، قدم خان أحد أهم أفلامه مع رفيقه وصديقه أحمد زكي، فيلم “زوجة رجل مهم”، الذي يناقش أحداث ثورة الخبز “انتفاضة الحرامية” 1977، ومع هذا الخط الرئيسي يناقش قصة الضابط “هشام” وتحولاته طوال الفيلم، وبجانب كل ذلك ترى أن الفيلم إهداء إلى صوت عبد الحليم حافظ.

كل هذه الخطوط المتباينة والمترابطة في الوقت نفسه، ينسجها خان بكل شغف ليجعلك أسير الفيلم، يجعلك تتورط معه ومع أبطاله، لا تعلم ما الخط الرئيسي وما هي الخطوط الثانوية، وبالطبع زكي كان له دور مهم جدًا في توصيل ما كان يحلم به خان، يتشاجر مع خان بقدر حبه له، والعكس صحيح، ضاع منه فيلم الحريف ونجح عادل إمام نجاحًا يثبت أنه ممثل قوي وقادر على تقديم كل الأدوار حتى لو كانت بعيدة كل البعد عن الكوميديا.

أضاع زكي أيضًا فارس المدينة من يده، ويحكي خان إنه ذهب لبيت زكي وأبلغته الخادمة أنه غير موجود، ووقف خان يصرخ موجهًا كلامه لزكي الذي يعلم إنه بالداخل، ثم بدأ خان في البحث عن بطل آخر سريعًا كي يبدأ التصوير في الموعد الذي كان مقررًا له من قبل، متحديًا صديقه، وبالفعل عرض السيناريو على محمود عبد العزيز ومن قبله كان كاتب السيناريو والحوار فايز غالي قد اقترح تقديم الدور للنجم الصاعد آنذاك محمود حميدة، وبالفعل تقابل معه خان وقدم له السيناريو مع شرط واحد ألا يقرأ السيناريو الآن، حتى يخبره محمود عبد العزيز عن قبوله الدور والموعد المحدد أو لا، وافق حميدة بالطبع، والذي كان يحلم بالعمل مع خان الذي شاهد كل أفلامه السابقة، ورفض عبد العزيز الفيلم بسبب الوقت والتزامه بتصوير أخر، ومع إصرار خان كان الفيلم من نصيب محمود حميدة، الذي لم يشاهده خان قبل ذلك إلا في فيلم “الإمبراطور” 1990 مع أحمد زكي وإخراج طارق العريان.

كما كان “زوجة رجل مهم” ممتلئًا بالخطوط المتشابكة والقصص المتباينة والمترابطة بفعل خان وكاميراته، كان “فارس المدينة” يمشي على الخطى نفسها، بداية ما قبل التتر مهم جدًا في أفلام خان، لا يمكن إغفاله لا من باب القصة أو الصورة، كأنه مفتتح لقصيدة، بداية توضح لك المكان والزمان للأحداث، المكان القاهرة الزمان وبالتحديد في يونيو 1988.

صورة الجريدة في الفيلم

ثم ينقلك إلى المحور الأول للفيلم “قانون توظيف الأموال” وهو قانون الصادر سنة 1988، وتسمع صوت عبد العزيز مخيون “أدهم الوزان” يوجه كلامه لبطل الفيلم محمود حميدة “فارس”، ويشرح للمشاهد الخط الرئيسي في الفيلم، ثم تنتقل إلى الخط الثاني، صورة شريط لأم كلثوم، ثم أغنية “غني لي شوية شوية” من فيلم “سلامة”، ثم إهداء الفيلم.. كل ذلك يحدث قبل بداية تتر الفيلم، الذي يبدأ لتعرف أن فارس متورط في جمع مبلغ كبير من المال في وقت قصير، وتكتشف لاحقًا أن الفيلم مغلف بصوت أم كلثوم.

صورة الإهداء

يحب خان اسم فارس، واختاره للمرة الثالثة اسمًا لأحد أبطاله بعد أحمد زكي في “طائر على الطريق” وعادل إمام في “الحريف”، ويترك المشاهد في حيرة، هل ثمة تشابه بين الثلاث شخصيات؟ فارس هو المواطن البسيط، المطحون وسط الحياة وتقلباتها، فارس في الثلاثة أفلام هو شخص تقع في حبه، تشعر وأنت تشاهده أنك تبحث عن نفسك فيه، وأنه يجسدك أنت شخصيًا، حتى بعيدًا عن أحداث الفيلم، تتابع فارس نفسه بكل ما يحمل من تراكيب متباينة ومترابطة ومتشابكة.

يربط خان أفلامه ببعض، تأكيدًا على أن كلها من واقع الحياة، كأنه يقول إن أغلب أفلامه ما هي إلا فيلم واحد طويل يرصد الحياة وتفاصيلها من وجهة نظره هو، يرصدها في تفاصيل صغيرة ربما لا يلاحظها المشاهد من أول مرة، إذ يتحدث محمود حميدة “فارس” إلى الخادمة ويناديها باسم “أحلام” ويسألها عن أمها وخالتها كاميليا وعن والدها، لترد الخادمة أنه سيفرج عنه أول الشهر، هكذا بكل بساطة وفي أقل من عشر ثواني، ربط خان بين “فارس المدينة” وفيلمه السابق “أحلام هند وكاميليا”، ثم يظهر خان في مشهد سريع يطلب تغير عمله من محمود حميدة “فارس”، تأكيدًا على أن فارس كان يعرف أحمد زكي “عيد” في أحلام هند وكاميليا.

في رحلة البطل لجمع الأموال المطلوبة منه، يدخلك خان في حياة فارس بكل تفاصيلها، رويدًا رويدًا تدخل في تفاصيل فارس وتعيش معه، يعشق خان توريط المتفرج في أفلامه، تتورط مع فارس، تبحث عن أي وسائل لتساعده في جمع الأموال.

يحب خان الشوارع ويكره الديكور، هذه قاعدة عامة، وهو من المخرجين الذين يفضلون فكرة التصوير في الشارع وفي الأماكن الحقيقة، بعيدًا عن الديكورات. يمكن أن تتعامل مع أفلامه على أنها تسجيلية وتوثيقية لمكان ما أو لفترة ما، أعتقد إنها صفة مشتركة بين جيله، مع خصوصية كل مخرج في التعبير عن ذلك، وهنا، يعيش خان أغلب مشاهد الفيلم في الشارع، مستغلًا فكرة تليفون السيارة، ويستخدمه دون اقحام أو افتعال وبطرق متباينة.

عندما كان خان يصور فيلم “خرج ولم يعد”، كان يسمي الفيلم قطعة من الشيكولاتة، وكان حريصًا على نقل هذا المسمى لكل العاملين بالفيلم، هكذا يصنع خان أفلامه. فهو يعتبر السينما بابًا للمتعة ومشاهدة الجمال وراحة للروح من عبء الحياة، هدنة مؤقتة مع صراعات الحياة، بالطبع كل ذلك يحدث بجانب القصة الرئيسية وما يريد توصيله للجمهور أو تسجيله، أو حتى للبوح بشيء ذاتي خاص به، يمكنك مع خان أن ترى جزءًا من فيلم “The Godfather” ليتعبه بجزء من ” Tom & Jerry”.

الأفلام

في فارس المدينة تظهر أم كلثوم، كظهور عبد الحليم حافظ في “زوجة رجل مهم”، وسط كل ما يدور من أحداث ومشاكل وصراع، تبقى أم كلثوم في الخلفية، وتصبح في أوقات هي البطل على الشاشة، استخدم خان أغاني الست بكل الأشكال، يغني معها محمود حميدة “فارس”، مرة في التلفزيون، ومرة في الراديو، ومرة بالحديث عنها بين الأبطال، ومرة في خلفية مشهد، 8 مقاطع من 8 أغنيات للست في الفيلم، (جنة نعيمي في هواك 1931، جمال الدنيا 1946، حب إيه 1960، أنساك 1962، أمل حياتي 1965، اقبل الليل 1969، اسأل روحك 1970، يا مسهرني 1972).

يحب خان الشخصيات الهامشية، يصنع لها مكانًا وسط الفيلم، مثل السائق الذي فقد عقله في فيلم “طائر على الطريق” أو الشخصيات الهامشية الكثيرة في فيلم “الحريف”، تختلف الشخصيات الهامشية عنده بمساحة الدور، وغالبًا ما تكون الشخصية غير مؤثرة في أحداث الفيلم الرئيسة، هنا يظهر لنا شخصية حسن حسني “عبد العظيم”، مدرس التاريخ والواعظ في المآتم، والذي يحترف النصب عن طريق رمي نفسه أمام السيارات كي يذهب للمستشفى ويقضي بها عدة أيام على حساب الضحية، دور من أهم أدوار حسن حسني في تاريخه الفني، يؤدي الدور بكل بساطة وخفة وتحكم في تفاصيل الشخصية وأبعادها النفسية والاجتماعية، وتطور علاقة النصاب “حسن حسني” و فارس “محمود حميدة”، حتى نهاية الفيلم.

من المشاهد الجميلة في الفيلم، عندما حكى حسن حسني عن حبه لأم كلثوم وصورته وهو في لحظة انسجام في حفلة للست، وكأن خان اقتبس روح الشاعر أحمد رامي ليصور حسن حسني في نفس الحالة، حالة السلطنة والتوحد مع صوت الست.

حسن حسني وأحمد رامي

في حياة البطل هذه المرة ثلاث نساء، زوجته السابقة “سعاد نصر”، وعشيقته “عايدة رياض” والتي استخدمها خان كي يجعل البطل يحكي عن تفاصيل تكتشف معها أغلب تفاصيل الفيلم، والحبيبة الممرضة “لوسي”، يتنقل خان بين الثلاث علاقات بكل سلاسة، ربما كانت الثلاث علاقات ما هي إلا علاقة واحدة وتطورها، ربما الحبيبة ستصبح عشيقته وربما يتزوج عشيقته، وربما ينتهي الزواج بالطلاق، ثلاث علاقات لخص فيهم خان علاقة الرجل بالأنثى من الناحية العاطفية، في نهاية الفيلم تسافر حبيبة سابقة “سعاد نصر”، وتبقى حبيبة جديدة “لوسي”، وهكذا تستمر الحياة.

نساء فارس

دومًا ما كان خان يصر على تصوير كل العلاقات التي يتشابك فيها البطل “فارس”، كما رصدها مع فارس “عادل أمام” في “الحريف”، كانت هنا أيضًا ولكن مع اختلاف الظروف الاجتماعية، كعلاقة فارس “محمود حميدة”، بابنه والخروج معه، وعلاقة ابنه بالمخدرات وظهور “خالد صاوي” في دور صغير كصاحب لابنه، أو علاقته بأخته وإرساله الأموال لها، كل ذلك رغم ما يمر به من مشاكل مادية وصعوبات.

وبالطبع تبقى في “فارس المدينة”، وعند خان تفاصيل كثيرة وكثيرة يصعب حصرها في مقال واحد، ويبقى الفيلم شهادة إثبات للنجم القادم بقوة وقتها، محمود حميدة،

الذي قدم الدور بكل حرفية، دون افتعال، ليقدم فيلمًا يليق بأفلام خان المليئة بالشغف والتفاصيل والجمال.

نشر في مدى مصر 2016