شريف حسن

الكتابة عن منير مراد هي بمثابة كتابة عن 25 عامًا من تاريخ السينما والموسيقى في مصر، تاريخ متنوع ومتباين من أغلب الزوايا، بداية من التنوع في الوظائف والمواهب، وليس انتهاءً بالتنوع في الوظيفة الواحدة أو الموهبة الواحدة.

منير مراد يشبه البحر: الكل يعرفه، وفي الوقت نفسه يجهل الكثيرون ما بداخله من إبداعات وتحف فنية وموسيقية، وبهجة خالصة لوجه الفن.

وهنا،  وفي ذكرى عيد ميلاده، نحاول المرور سريعًا على علامات تركها في أغلب المجالات التي عمل بها، وكأننا نختار وردة من كل بستان زرعه هذا المبدع المبهج، الذي كان معجونًا بالفن والموسيقى، لنهديها له، ولمحبيه، ولمحبي الفن.

هو الفنان الشامل كما كان يطلق عليه، وهو ابن لعائلة فنية كبيرة، لها مكانتها في تاريخ الموسيقي الشرقية عامة والمصرية تحديدًا، فهو ابن زكي أفندي مراد، أحد أهم مطربي القرن التاسع عشر في مصر، والذي كانت له شهرته وتاريخه الفني المهم.

في مثل هذا اليوم من 94 عامًا ولد موريس زكي مراد، الذي أصبح بعد ذلك منير مراد. وقضى طفولته في بيت يمتلئ بالموسيقى والغناء والمشاهير، بين والده المطرب، ووالدته التي تهوى اللعب على العود، وأخته “السيدة ليلى مراد”، كما كان يحب أنا يناديها، والأخت الثانية ملك مراد التي كانت تغني أيضًا، والتي هاجرت إلى أمريكا. ثم تخرج منير في الكلية الفرنسية، وعمل في بداية حياته بالتجارة.

صورة من كواليس فيلم غزل البنات

طوال 15 سنة كان منير مراد يقف وراء الكاميرا كمساعد مخرج، وعمل مع أهم مخرجي السينما في ذلك الوقت، مثل توجو مزراحي، وكمال سليم، وفطين عبد الوهاب، وأحمد بدرخان، وإبراهيم عمارة، ويوسف وهبي، ونيازي مصطفى، وعز الدين ذو الفقار، بالإضافة إلى جميع أفلام شركة أنور وجدي؛ بحكم زواج الأخير من أخته “الست ليلى مراد”، كما شارك كممثل كومبارس في عدة أفلام.

عمل منير مراد في كل ما يتعلق بصناعة السينما، وكان اسمه موريس مراد، حتى قام بتغييره عام 1949 إلى محمد منير والشهرة منير مراد، كما ظهر في تتر فيلم “غزل البنات”

عمل منير مراد في التجارة ثم السينما، وظل طوال تلك الفترة بعيدًا عن شغفه الأول: الموسيقى، والألحان والغناء، ولكنه كان غارقًا حتى الثمالة في الموسيقى، وكلما استمعت إلى ما قدمه من ألحان وموسيقى ستتأكد من ذلك. فهو لم يكن أبدًا بعيدًا عن الموسيقى، وكما كان يقف دائمًا خلف الكواليس كمساعد مخرج، كانت الموسيقى تقف بداخله خلف كل تلك الكواليس، تكبر وتنمو بداخله، حتى يأتي وقت انفجارها، لتستمر بالعطاء حتى رحيله، وتستمر ألحانه في تصدير البهجة والخفة في الحياة المليئة بكل ما هو عكس موسيقاه.

كان أول ما عزف على العود وهو طفل هي مقطوعة “حبي” لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، والتي عزفها أمام عبد الوهاب نفسه في بيت الأسرة، وقت تحضير فيلم “يحيا الحب” 1938، بطولة محمد عبد الوهاب وليلى مراد. وبالطبع آثار تمكن الطفل الصفير من حفظ مقطوعة كتلك دهشة عبد الوهاب، الذي تنبأ له بمكانة عظيمة، لتمر السنوات ويصاحب منير مراد بعد ذلك عبد الوهاب في أسفاره إلى الخارج كمترجم ورفيق.


رغم أنه كان يهوى آلة القانون تحديدًا، إلا أن منير كان طفلًا ذكيًا وموهوبًا، استغل هذا البيت الكنز، بكل ما فيه من فن وفنانين، سواء المقيمين بالبيت: مثل والده، الذي بدأ في تعليمه وإرشاده، أو الزائرين من عمالقة الفن والغناء، كالشيخ زكريا أحمد والأستاذ محمد القصبجي، والمعلم الكبير داوود حسني. حيث كان يجلس ليحفظ كل ما يقال من أدوار وموشحات وأغاني.

تعلم منير مراد الموسيقى في بداية الأربعينيات في معهد إيطالي بالإسكندرية، وكان هو الطالب المصري الوحيد في المعهد الذي كان من ضمن أساتذته الموسيقي والموزع الكبير أندريا رايدر، الذي تعلم منه منير مراد أن أهم ما في اللحن هو الميلودي، وبنظرة سريعة لأعمال منير مراد تجد إنه سار على هذا النهج وقدم ألحانًا مميزة وقام بثورة موسيقية في الألحان والأغاني.

كانت البداية الحقيقة له مع فيلم “ليلة الحنة” إخراج أنور وجدي، وظهر خلاله منير مراد ملحنًا لأول أعماله الفنية: أغنية “واحد اتنين”، من كلمات أبو السعود الأبياري وغناء شادية.


لينطلق مع شادية في واحد من أهم الثنائيات الموسيقية في تاريخ السينما المصرية، لتصبح شادية هي أكثر من غنى من ألحان المبهج منير مراد، ولم يخلُ فيلم لشادية من لحن لمنير مراد، لدرجة أنه قال إنه قدم أكثر من 700 لحن لشادية فقط، وهو الرقم الذي قد يكون مبالغ فيه، ولكنه يؤكد على كثرة التعاون بينهما.

فيما كان عبد الحليم حافظ صديقه العزيز، الذي قدم معه أغاني كثيرة، وقد كان له لحن واحد على الأقل في أغلب أفلام عبد الحليم، وهي الألحان التي أتت لأغنيات متباينة الشكل، مثل “بحلم بيك”، “بأمر الحب”، “ضحك ولعب وجد وحب”، “أول مرة تحب يا قلبي”، “قاضي البلاج”، “وحياة قلبي وأفراحه”، وغيرها من الأغاني. وقد أضاف منير مراد إلى صوت عبد الحليم الكثير من البهجة والخفة بما قدمه من ألحان، حتى أن عبد الحليم كان يطلق عليه “فسوخة العمل”، لتفاؤله بالألحان التي يقدمها له في الفيلم.

ولم تكن علاقة الثنائي علاقة عمل فقط، إذ كان منير يرافق عبد الحليم في أغلب أسفاره للعلاج بالخارج، وفي فيلم “معبودة الجماهير” جمع القدر أكثر شخصيتين أحب منير مراد العمل معهما، ليقدم الثلاثي واحدًا من أحلى الدويتوهات في تاريخ السينما المصرية “حاجة غريبة”.

طوال حياته الفنية لم يظهر صوت في مصر إلا وقدم له منير مراد لحنًا أو أكثر، وعادة ما تجد أن لحن منير مراد كان واحدًا من أهم الألحان في مسيرة هذا الصوت، مثلما هو الحال مع أغنيات صباح: “علمني الحب”، “روح على مهلك”، “طول بالك”، “آه من عينه”، “عطشانة”.

ولكن لا يمكن في مقال واحد، أو حتى عدة مقالات، حصر المطربين الذين تعاون معهم، أو الأغنيات التي وضع بصمته عليها، وإن كان يذكر له أنه قدم لشريفة فاضل أشهر أغانيها “الليل موال العشاق”، و”حارة الساقيين”، و”لما راح الصبر منه”، وغيرها، كما قدم لهدى سلطان عدة ألحان مثل “قرب كمان”، و”يا عزيز عيني”، و”قلبي لما دق”، و”هو اللي شاغلني”، كما قدم لوردة أول ألحانها “من يوميها”

كما قدم لمحمد عبد المطلب “بنت الحتة”، ومحمد قنديل “يا نخلتين في العلالي”، ومحمد رشدي “كعب الغزال”، وغيرهم من المطربين مثل: محرم فؤاد، وإسماعيل شبانة، وكمال حسني، وعايدة الشاعر، وليلى نظمي، ومها صبري، وفايزة أحمد، ومحمد حمام، وهاني شاكر.

ورغم كل ذلك، لم يتعاون منير مراد مع “الست”، كوكب الشرق، رغم أن أم كلثوم كانت تتمنى التعاون معه، لكنه بطبعه المجنون كان لا يرى في نفسه ملحنًا للأغاني الطويلة، وبعد نقاشات طويلة، قرر أن يقدم لها ألحانًا قصيرة على غرار أغنيتها التي لحنها رياض السنباطي “حقابله بكرة”، ولكن مرض الست لم يمهله لإنجاز هذا العمل.

وفضلًا عن كونه ملك البهجة والخفة و”المعجون فن”، حسب ما وصف نفسه، كان منير مراد أيضًا ملك الاستعراضات والدويتوهات الغنائية، حتى أنه صرح في أحد حواراته الإذاعية، أن لحنًا واحد من هذه الألحان بعشرة من ألحان أم كلثوم.

ترك منير مراد بصمة في فن الاستعراضات ما زالت آثراها موجودة وواضحة حتى الآن، مثل استعراض نيللي: “يا نورا يا نورا”، أو نعيمة عاكف: “السعادة”، أو صفاء أبو السعود: “مجنون ليلى”، وبالطبع أغاني فؤاد المهندس وشويكار مثل: “قلبي يا غاوي خمس قارات”، أو “يا واد يا مفكر وهايل”، وغيرها لفؤاد المهندس مثل “ياسو”، “ممنون”، وغيرهم الكثير من الاستعراضات المهمة والخالدة في تاريخ السينما المصرية

كان منير يهوى البلاتوه وكأنه بيته الأول، لم يقدر أن يهمل حبه للتمثيل وتقديم الاستعراضات، فقدم عدة تجارب سينمائية هي: “نهارك سعيد”، “موعد مع إبليس”، “أنا وحبيبي”، وقدم فيها أعمالًا توضح خفته وبهجته، وتؤكد أنه فنان موهوب وشامل، يغني ويكتب ويرقص ويقلد، مثل اسكتش “محدش شاف”، “أين تذهب هذا المساء”، “اسكتش الكورة”، “لما تروح وتشوف”، وغيرها من الاسكتشات والأغاني، كأغنية “قولي آه” مع كريمان في فيلم “موعد مع إبليس”.

كان الظهور الأخير له في فيلم “بنت الحتة”، الذي قدم فيه أغنية “أكلك منين يا بطة”، مع سامية جمال، التي رقص بجوارها بمهارة راقص محترف، ويحكي عن نفسه أنه كان يرقص لمدة ست ساعات متواصلة في بيته من شدة حبه للرقص، وقد كان من أوئل من أتقنوا رقصة الكلاكيت في السينما المصرية، وعندما تشاهد فيروز في فيلم “دهب” وهي ترقص وتغني “يا حلاوة على الكلاكيت”، اعلم أنك تشاهد فيروز ولكنك تسمع دقات حذاء منير مراد.

كان منير مراد يهوى العمل كفريق واحد، لا يحب أن يأتي الكلام له ويبدأ في تلحينه، بل كان يرى أن الأصح والأصلح للتطور الموسيقي، هو أن يقوم كاتب الأغاني والملحن بالعمل سويًا، كما كان يفعل هو مع رفيقه فتحي قورة، فتكون النتيجة عملًا متناسقًا استغل كل ما في المشهد من فكرة وممثلين وديكور، ومكنّه ذلك أيضًا من اللعب على ألحان غيره، بل واستخدامها داخل ألحانه بشكل مبهج وساخر وجميل، وقد فعل ذلك مع كثير من الملحنين مثل الموجي وكمال الطويل وحتى ألحانه هو لشادية، وكان لعبد الوهاب نصيب الأسد في إعادة ألحانه وسط ألحان منير.

 

كان منير عاشقًا للموسيقى، يسمع موسيقى من كل العالم، من أوربا وأمريكا بحكم سفره وعمله لفترة في نوادي وصالات في عدة دول أوربية، كما كان أيضًا يستمع للموسيقى اليابانية، وكان مدركًا للموسيقى الشرقية بكل جوانبها، ومدركًا لفكرة تطورها، ودارسًا لأهم الملحنين وأساليبهم التلحينية ومدارسهم في التطوير والتلحين، وأبسط مثال على ذلك تقليده للملحنين مع أغنية “أنا والعذاب وهواك” في سهرة في بيته بصحبة أخته وعبد الحليم حافظ وآخرين.

المصادر:

برنامج “حديث الذكريات” مع أمينة صبري.

كتاب “التياترجي منير مراد” وساد الدويك

نشر في موقع مدى مصر 2016