شريف حسن

“أنا سعاد أخت القمر.. حسني بين العباد اشتهر” (كلمات أحمد خيرت وغناء الطفلة سعاد حسني).

كثيرون هم من يحلمون بدخول عالم الفن والتمثيل والشهرة، وقليلون من تسمح لهم الحياة بذلك، وأقل القليل هو من ينجح عن حق واجتهاد، بالطبع بجانب قدر غير ضئيل من الحظ، لكن فئة نادرة جدًا هي من تتحول من شخص موهوب وفنان مشهور، إلى أسطورة، نقطة فاصلة بين ما قبله وبعده، أو أيقونة، لا تذبل ولا تتغير.

كانت سعاد من القلائل النادرين الذين تحولوا إلى أسطورة: موهبة مخيفة في التمثيل والأداء، وجه له طلة لا ينافسه فيها أحد، أنوثة نعترف بها جميعًا، فتاة أحلام الجميع، دائمًا خارج المقارنات والمنافسات، أو كما قال أحمد زكي (كمال) في “العيال كبرت”: “كل الناس بتحب سعاد حسني يا عاطف”.

اكتشفها الشاعر عبد الرحمن الخميسي، وأسند تعليمها إلى اثنين: مدرس اللغة العربية والممثل إبراهيم سعفان، والممثلة الشابة خريجة كلية الآداب أنعام سالوسة

للنجومية والشهرة عيوب، يطلقون عليها “ضريبة النجاح”، ورغم كونه كلامًا مكررًا، لكنه مع سعاد كان حقيقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. عاشت سعاد دائمًا للفن والجمهور، حتى أيامها الأخيرة كانت تفكر وتخطط للعودة للجمهور وللوطن، عاشت تبحث عن نفسها، تبحث عن “السندريلا” -لقبها الذي أطلقه عليها الصحفي “محمد بديع سربيه”- وتبحث عن السعادة والراحة، لم تكن تحلم بكل هذه الشهرة والضجيج والحياة الصاخبة، الذي لم يعوضها عن فكرة الأمومة والأسرة المستقرة والحياة الهادئة.

***

كانت سعاد متورطة في الفن، مع الشخصيات والأدوار، تحكي أنها تحب أي شخصية تقوم بها، تبحث عن مدخل للتعاطف معها، مؤكدة إنها لو لم تحب الشخصية مهما كانت، فلن تتمكن من أدائها. كانت تتورط مع كل شيء، مع كل ما في الطبيعة، تطلق عليها “حالة الاندماج الهبلة”، تحكم على أي شيء أو أي تصرف بكل حواسها، كانت ترى أن الاندماج يصل بها إلى التلقائية وعدم الاصطناع، وهو شعور متعب دائمًا

***

“كهربا.. أنا كهربائية.. في دقيقة وثانية.. أولع.. أطفي.. أطفي أولع..ده أنا كهربا” (سعاد حسني ـ صلاح جاهين ـ كمال الطويل ـ فيلم “المتوحشة”).

***

امتلكت سعاد طاقة تمثيلية رهيبة، بكل بساطة وهدوء. يقول الفنان الراحل نور الشريف إنك لو جمعت خمس لقطات حزن لسعاد من أفلام مختلفة، لوجدت فرقًا شاسعًا بين كل شخصية والأخرى. كانت تهتم بالتفاصيل، يقال إنها جاءت في أول يوم تصوير في فيلم “الكرنك” مضيفة بعض التفاصيل الصغيرة على ملابس الشخصية كي تؤكد إنها من بيئة فقيرة.

بجانب التطور في الأداء والتمثيل بالخبرة والممارسة، تطورت سعاد تطورًا ملحوظًا، اكتسبت نضجًافي التفكير لا تستطيع أن تنسب فضله لشخص بعينه، وإن كان هناك شخص يستحق هذا الفضل فهي سعاد نفسها، تعلمت وقرأت واهتمت بالتفاصيل، قدمت أدوارًا مهمة بعد مرحلة أدوار الفتاة الجميلة الدلوعة، أدوار في أفلام سياسية واجتماعية. كانت سعاد واحدة من الممثلات اللاتي احترمن سنهن، وعلمت أن لكل سن أدواره التي تستطيع أن تتعايش معها وتقدمها بكل مصداقية كما هو معتاد منها.

***

كان محمد الموجي يبحث عن طفلة تغني مقاطع الطفلة الصغيرة في فيلم “صغيرة على الحب”، لكن سعاد أقنعته بالتجربة أنها قادرة على غناء كل المقاطع وتغيير صوتها ليتناسب مع سن البطلة.

***

كانت “زوزو ألماظية” هي الأقرب لقلبها، بكل ما تملك من طاقة وبهجة وحزن دفين، ترقص بكل خفة وبهجة وغواية، ويختبئ الحزن بداخلها، كان عليها أن تبقى أمام الجمهور “السندريلا”، لكنها وجدت نفسها في “زوزو”، المنتمية للطبقة المتوسطة، طبقة سعاد في الحقيقة، كانت “زوزو” هي محطة وصول سعاد لذاتها في شكل فني، بعيدًا عن أساطير “السندريلا” وفتاة الأحلام.

***

“أنا زوزو النوزو كونوز.. مش موجودة في المنزل، من فضلك اترك رسالة قصيرة واسمك وتليفونك” (رسالة الأنسر ماشين لهاتف سعاد حسني في لندن بصوتها).

***

كان للشعراء تاريخ طويل في حياة سعاد حسني، بداية من صديق والدها وكاتب كلمات أول أغنية لها وهي طفلة الشاعر أحمد خيرت، ثم مكتشفها الشاعر عبد الرحمن الخميسي، مرورًا بكامل الشناوي، ثم علاقة الصداقة والإلهام التي جمعتها مع الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، والذي حكت سعاد إنه كان يستلهم منها قصائده، وكانت علاقة أقرب ما يكون للحب ولكنها لم تكن حبًا، وكان لعبد الصبور فضل مثل من سبقوه في زيادة ثقافتها، وقراءتها للشعر ومعايشة خيال الشاعر، وبالطبع يبقى لوالدها الروحي الشاعر صلاح جاهين علامة فارقة في تكوينها واكتمالها وتألقها.

***

“يا مضـروبين بالفن يا احنا

يا سهرانين منه الليالي

مانسلاهــوش ولو اندبحنا

ده الفن عند صحـابه غالي

(مقطع من قصيدة لصلاح جاهين سجلتها سعاد بصوتها في رسالة صوتية تم إذاعتها في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 1998، لكن لم يتم إذاعة القصيدة).

ربما كانت هذه القصيدة ردًا على الحملة التي قامت بها عدة فنانات معتزلات، مع موجة الاعتزال وارتداء الحجاب في بداية التسعينات، كانوا يحاولون مع سعاد حسني كي تعلن اعتزالها هي الأخرى وترتدي الحجاب، وكانت على رأسهم الراقصة المعتزلة زيزي مصطفى، وغيرها من الفنانات، وربما كانت حملة ممولة أيضًا، فقد كان هناك إصرار على إهدائها رحلة حج لتعلن بها اعتزالها للفن، رفضت سعاد فكرة الاعتزال والحجاب، وأصابها ذلك بالضيق الشديد والضجر من كل من حاول التدخل في الموضوع، وبالطبع رفضت رحلة الحج، وقالت إنها ستحج عندما تكون قادرة على فعل ذلك جسديا وماديًا.

جزء من رواية سرور لطلال فيصل

في أفلام عديدة قدمتها ارتدت سعاد فستان الفرح، ولكن لم يحالفها الحظ بارتدائه في الحقيقة طوال حياتها، رغم زواجها أربع مرات، أولها كان زواج سري من عبد الحليم حافظ، والمرة الثانية كما قالت “كانت غلطة”، ثم تزوجت علي بدرخان، وكان والده المخرج أحمد بدرخان قد توفي قبل الفرح بقليل، وفي الزواج الأخير من السيناريست ماهر عواد كان الحزن على رحيل صلاح جاهين ما زال مسيطرًا عليها، وربما كان لهذا علاقة باحتفاظها بأغلب فساتين الفرح التي ارتدتها في أفلامها.

هكذا كانت حياة سعاد حسني بين “السندريلا” و”زوزو”، بين النجمة والإنسانة، بين الأسطورة والحقيقة، بين البهجة والحزن، ولدت سعاد كي تبهجنا وتبقى أعمالها خالدة طوال الحياة، وتبقى هي أيقونة الجمال والأنوثة والدلع. وتمر الأعوام وهي “أخت القمر”.

 

مصادر: كتاب “السندريلا تتكلم” للكاتب والصحفي منير مطاوع

نشر في مدى مصر 2016