شريف حسن

“مين اللي مات يا شب يابو الدموع

قالت عروس الشعر للموجوع

مين اللي مات يا شب قل لي يا خويا

قالت عروس الشعر لا يكون أبويا

أنا قلت أبونا كلنا يا صبية“

هكذا رثى صلاح جاهين، بيرم التونسي، كما قال جاهين في القصيدة فبيرم أبو شعر العامية، رحل عنا في بداية عام 1961، وفي عام 2015 رحل عنا آخر أبناء العامية الكبار، عبد الرحمن الأبنودي، من تحت عباءة بيرم خرج لنا شعر العامية مع أبنائه الثلاثة، فؤاد حداد، وصلاح جاهين، والأبنودي، ومن عباءتهم خرج الكثير والكثير، كل من كتب ويكتب أو سيكتب شعر العامية فهو مدين بالفضل لهذه الأسرة صغيرة العدد، كبيرة المكانة.

خلال هذه السنوات ظهر الكثير والكثير من شعراء العامية، وكانت لهم بصمتهم المميزة وأسماؤهم الكبيرة، وفي نفس الوقت.. كان في كل جيل من شعراء العامية، فئة تحاول التعامل مع شعر العامية على أنه أسهل طرق الشعر في كتابته، خلطة سريعة جاهزة للجمهور، بالطبع هي خادعة للذوق العام، جذابة للجمهور العام وأحيانًا جمهور الشعر نفسه، وأخيرًا فهي رغم كل ذلك لا تستطيع خداع الزمن والوقت، لا تمتلك موهبة الهرب من مقصلة التاريخ والسقوط في غيابات النسيان.

يوضح أمل دنقل قبيل وفاته بسنة في التلفزيون المصري في ضيافة الشاعر فاروق شوشة، وبصحبة صديقه شاعر العامية الأبنودي، أن الشاعر الذي يعتمد على الأحداث اليومية يقرأ الجرائد ليكتب عما يحدث، وكأنه شعر خبري صحفي، شاعر ستكنسه الأيام؛ لأنه لم يتملك مواصفات الشاعر الحقيقي. وتحكي عبلة الرويني زوجته ورفيقته، أن أمل كان يصرخ في أي شخص يلقي شعرًا غير جيد، وكان يوقفه بالقوة لا يتركه يُكمل القصيدة، كان الناس يرون أنه فعل غير إنساني، ولكن أمل كان يعتقد أن هذا أقل شيء يقدمه لقدسية الشعر ومكانته، الذي يؤمن بها أمل إيمانًا كاملًا خالصًا لوجه الشعر.

شعر العامية، فخ الشعر الخفي، تقرؤه تشعر وكأنك تستطيع أن تكتب مثله، يخدعك، يبهرك، يجذبك، ولكن قليل من ينتصر في النهاية، الهزيمة أمام الشعر هي قمة الانتصار.

في بداية هذا العام، وبالتحديد في أكبر ملتقى ثقافي في مصر، في معرض الكتاب كانت دار دوّن تعلن عن ديوان “الصحبجية”، ديوان عامية يجمع 15 شاعرًا، أو هكذا أعتقد؛ لأن الديوان يتضمن قصائد للمطرب هاني عادل، والمطرب أمير صلاح الدين. وهي ليست قصائد، وإنما أغاني لوسط البلد وبلاك تيما، وربما التعريف الأمثل لها كان على لسان هاني عادل نفسه مع خيري رمضان في برنامج “ممكن”، أنها ليست قصائد وإنما “حاجات”.. ولم يُلق هاني عادل “حاجاته”، وإنما غناها.

الديوان يجمع أجيالًا مختلفة وتجارب متباينة، منهم من جيل أواخر التسعينيات كسالم الشهباني، وهو صاحب أكبر عدد دواوين في شعراء الديوان، بعدد 8 دواوين، وميدو الزهير المشهور بقصائده المغناة، وممدوح فوزي، وشعراء من جيل ما قبل الثورة مثل مصطفى إبراهيم وضياء الرحمن المشهور أيضًا بأغانيه، وشعراء ما بعد الثورة وهم الفئة الأكبر، ولا ننسى حضور الصوت النسائي في العامية، كدعاء عبد الوهاب، ومروة جمال الدين.

الديوان فرصة للتعرف على أجيال مختلفة من شعراء العامية، من هم ورثة حداد وجاهين والأبنودي، وهل يستحقون هذا اللقب المخيف “شاعر عامية”، لكنها فرصة صادمة بكل المقاييس، صدمة أن ترى كل هذه القصائد الخالية من أي صراع حقيقي أو تشابك مع إشكالية، قصائد قررت أن ترصد كل شيء بسطحية متناهية، قصائد تنتهي عند نهاية القصيدة نفسها، لا مساحة للتخيل أو التفكير أو الاستمتاع بصورة شعرية جميلة، كم هو مؤسف حقًا أن تخرج دون أي صورة شعرية من ديوان كامل يحمل 15 صوتًا مختلفًا.

“أنا لو قلت ف خصاله هاقول الليل ومواله

وأقول الخيل وخياله

وأقول الويل وأهواله

وأقول الخطر وأقول المطر

وأقول الشجر وأقول الحجر صوان” (محمد فوزي.. قصيدة “الجنة من خيرك”).

هكذا يقول الشاعر محمد فوزي كلامًا عامًا، لا أعرف ما يعني لي أنا كقارئ جملة مثل “وأقول الخطر وأقول المطر”، جاءت أغلب القصائد عن مواضيع انتهكت كتابة، لن ترى فكرة جديدة، أو رؤية جديدة، كأحمد النجار في نهاية القصيدة الغربية “غريب”، يقول: “صفر – واحد – اتنين – تلاتة – ستة – ستة – سبعة – ستة – صفر – واحد – صفر.. تاني” بعد كل هذه الأرقام في القصيدة والتي تكررت قبل ذلك مرتين في النص، يقول النجار حكمة القصيدة:

“بنكسب كل شيء في سنين.. ونخسر بعض في ثواني؟!

وآه ياني..

الهاتف الذي طلبته ربما يكون مغلقًا…”

#01023676010

#رقم_غريب“

هذا المثال من طريقة الكتابة في القصيدة، يؤكد على فكرة شعراء الفيس بوك، فالقصيدة مكتوبة بهاشتاج، مع وضع رقم موبايل في شكل هاشتاج أيضًا، هكذا يكتب شعراء العامية الآن القصيدة، أحمد النجار شاعر صدر له ديوان في نفس العام تحت اسم ” كاموفلاج.. 31 شوت.. بدون مونتاج”، وفي العام السابق كان الديوان الأول له “تراتيل بين الشوارع والبيوت”.

الوزن والتفعيلة والموسيقى الشعرية، هوس في عقل أغلب شعراء الديوان، كميدو زهير، وهو بالأساس كاتب أغانٍ أكثر منه شاعرًا، بالزجل وكثرة استعمال الوزن والموسيقى الشعرية هي أساس قصائده، ربما ميدو زهير غير قادر على كتابة قصيدة عامية، ولكنه قادر على كتابة أغانٍ جيدة، وبالفعل له أغانٍ كثيرة مشهورة وناجحة جدًا.

“وعين عواله

وعين قواله

وعين بتِدرِس

وعين بتِفرِس

وعين بتخرَس

وتبقى آلة..” (ميدو زهير – من قصيدة حالة).

الوزن هو المسيطر على أغلب القصائد، الوزن أهم من المعنى، تستطيع أن تخمن الكلمة التالية من وزن الجلمة السابقة، كقصيدة محمد إبراهيم “هدنة”:

“لكن دلوقتي ويا خسارة

اتشدت عـ القصة ستارة

وأهو قاعد من حزنه فــ أوضته

بيكلم صوره على موبايله“

أو كسالم الشهباني في قصيدة “زي صوتك في الوداع”:

“مش حكاية

إنك تفارق

حد كان..

في القلب عندك

كل حاجة

حط قبل..

الجملة «كان»

تبقى كان..

كل حاجة“

هكذا يسير أغلب الديوان، قصائد ضعيفة جدًا، لا تحتوي على جديد، كلها إعادة كتابة لما سبق كتابته في شعر العامية ولكن بشكل أضعف بكثير، فنرى دعاء عبد الوهاب في قصيدة “كل الحاجات”، والتي حاولت مرارًا وتكرارًا أن أصل لمعنى المقطع الأول، أي معنى ولكني فشلت.. لكن ما وجدت غير البحث عن الوزن والقافية فقط لا غير، مع كلام مبهم وعام إلى أبعد درجة.

“كل الحاجات

حلم اللي جاي

حزن اللي فات

لوم الحروف

صوت السكات“

مازال استخدام الوزن شرطًا أساسيًا لكتابة قصيدة في الديوان، صور مباشرة، استسهال في الكتابة، واستخدام القافية بشكل مستمر ودائم، كبداية قصيدة “ضد مين” للشاعر محمد السيد.. لنرى نهاية كل شطر في المقطع الأول من القصيدة سنجده يتمحور حول وزن “ين”، «ابني فين، من سنين، كان مخبرين، ضد مين، محبوسين، حلف اليمين، آمين، ضد مين».

من أهم خصائص القصيدة وشاعرها، هو احترام عقلية القارئ، تنطلق الأفكار وتنتهي بشكل بسيط حد السذاجة، نظرة طفولية للأمور، نظرة شعرية أكثر من اللازم، فسقطت في فخ المباشرة والتنمية البشرية أحيانًا، مازلنا لا نرى تشابكًا حقيقيًا، أو صدامًا تنتج عنه نتيجة جديدة، أو طرحًا جديدًا. أغلب ما كتب ما هو إلا إعادة بشكل ضعيف لما قيل من قبل وتم استهلاكه أيضًا.

“كنت بقول لــ «يوسف»

تعالى نهرب يا يوسف

نروح لأي مكان نحس فيه بشعور واحد سوي” (أحمد الطحان – قصيدة “يوسف”).

أما مع مروة جمال الدين فكان الأمر مختلفًا تمامًا، قدمت مروة مثل كل شعراء الديوان قصيدتين، هما قصيدة “البنات في بلادي”، وهي إعادة كتابة لأغنية البنات لمحمد منير كلمات الشاعرة كوثر مصطفى، كانت القصيدة إعادة بشكل صريح وفج لأغنية منير، مع زيادة تفاصيل فقط كي تكون قصيدة طويلة، استخدمت مروة حتى نفس قافية الأغنية في أغلب القصيدة.. كانت القصيدة أقرب إلى القصائد الموجهة للأطفال، أو مراكز التوعية التابعة للدولة:

“البنات في بلادي حلوة

البنات في بلادي غنوة

البنات في بلادي طاقة

بس مأسورة وحزينة

البنات في بلادي زينة

بس مكسورة الجناح..“

لا أعلم ما هي علاقة الزينة بالجناح، والجناح المكسور خاصة، فالمعنى في بطن الشاعرة، أما القصيدة الثانية، نتذكر جميعًا فيلم “جري الوحش” للمؤلف “محمود أبو زيد”، في مشهد حواري بين المحامي حسين الشربيني وصديقه نور الشريف، يقوم الأول بشرح وجهة نظره في فكرة أن كل شخص على وجه الأرض يأخذ حقه كاملًا و24 قيراطًا، ويستفيض في الشرح، أن الـ 24 قيراطًا يتم توزيعهم باختلاف بين الناس. ولكن في النهاية كل يأخذ حقه 24 قيراطًا، مشهد كتب ومثل منذ أكثر من 25 عامًا، اقتبسه محمود أبو زيد من الشيخ الشعراوي، لنجد مروة تكتب قصيدة “24”.. وما هي إلا كتابة للحوار في شكل قصيدة، لا أكثر ولا أقل:

“ربنا ماظلمش حد

كلنا هنا زي بعض

حقنا واخدينه كله

الأربعة وعشرين قيراط

حد واخد حقه صحة

ترحمه ذل السؤال

حد واخد مال زيادة

بس ناقص في الجمال“.. إلى نهاية الحوار/القصيدة.

شارك مصطفى إبراهيم بقصيدة واحدة فقط، وكانت القصيدة على نفس مستوى الديوان، من أضعف ما كتب مصطفى، رغم تمكنه من أدواته كعادته، لكنها قصيدة مباشرة وسياسية بشكل طفولي، قصيدة تنتمي لجو قصائد الستينيات:

“أنت حر

ما لم تضر

أمريكا“

قراءة سريعة لديوان كان من المفترض أنه يجمع أهم من يكتبون شعر العامية الآن في مصر، أو هو بالأحق كذلك، وفي الحالتين فهو دليل على أن شعر العامية في خطر بشكل كبير، خطر من كتابه ومن الجمهور المحب لهذا النوع من الكتابة، وبالطبع من القائمين على نشره، هل قامت دار دوّن بقراءة القصائد واختارت ما يرتقي للنشر، هل توجد لجنة لتقييم الأعمال؟، ومن ضمن شعراء الديوان هو الشاعر أحمد البوهي، وهو أحد مؤسسي دار دوّن القائمة على نشر الديوان، والدواوين الخاصة لأغلب شعراء الديوان.

“أما المديح سهل ومريح، يخدع.. لكن بيضر” (أحمد فؤاد نجم).

  • للأسف لم أتمكن من الحديث عن فكرة وجود القصائد مسموعة مع إخراج فني واستخدام مؤثرات صوتية، بسبب أن الــ CD المصاحب للديوان كان فارغًا من أي محتوى.

نشر في موقعع التقرير عام 2015