كانت أول علاقاتي بفكرة التحايل في الغناء، من آثر الطفولة، فيلم “لا وقت للحب”، وحديث أمي عن فكرة استخدام أغاني الأطفال في تنبيه البطل “رشدي أباظة”، من وجود الإنجليز في المنطقة، كي لا يقبضوا عليه، بعد فشل كل المحاولات الجدية في توصيل المعلومة له، في عصر ما قبل اختراع الموبايل.

كان الحل الأسلم هو غناء الأطفال في الشارع، بفكرة من أحد الأطفال، ونجحت الطريقة، استطاع صلاح أبو سيف مخرج العمل، وأبو السينما الواقعية في مصر، في استخدام التراث الشعبي وغناء الأطفال في منطقة جديدة، وبشكل جديد، وفتح شكلا جديدا لفكرة التحايل بالغناء وفي الغناء.

اوعى البعبع مستنيك.. راح يتغدى ويفطر بيك.. أوعى تخش العشة يا ديك.. خدها نصيحة من الكتكوت

لم يكن التحايل جديد على الأغنية المصرية، فالغناء هو أحد طرق التعبير، واللغة العربية كأي لغة بها أشكال كثيرة للتروية والتحايل بالألفاظ، خاصة اللغة العامية المصرية، وما تتمتع به من ثراء وتداخل لغات أخرى كثيرة وتأثرها به، كانت أكبر أثر لها ووضوح في الأغاني السياسية، فكلما زاد التضييق السياسي، كانت الحيلة هي أنسب طرق التعبير عن الشعب.

فعندما عزل الإنجليز خديوي مصر، عباس حلمي الثاني عام 1914، ومنع ذكر اسمه في أي مكان، فما كان من سيد درويش ويونس القاضي، إلا بالتحايل على هذه القرارات، وقدم سيد درويش دور “عواطفك أشهر من النار“، وعند تجميع أول حرف من كل بيت في الدور، ينتج لك كلمة “عباس حلمي خديوي مصر”

كان تحايل صعب الفهم خاصة للمواطن العادي، لكن مع ثورة 19، ثورة شعبية في الأساس، ونفي سعد زغلول، مٌنع تداول اسمه ايضًا، لم يكن أمام سيد درويش إلا التحايل، ولكن هذه المرة كان يجب أن يكون التحايل أكثر سهولة وقربا للشارع المصري والمواطن العادي، فخرجت لنا أغنية “يا بلح زغلول” بصوت المطربة نعيمة المصري، ولحن سيد درويش.

 

لم تكن هذه الحيلة من منطلق إلا منطلق الفلكلور المصري، وما تحمله العامية المصرية من ترويه، وذكاء في فهم ما يقصده القائل في وقتها، لذلك كان التحايل واضحا وجليا في أغاني الفلكلور المصري، خاصة في أغاني الأفراح، والتي كان التعبير فيها بشكل صريح وجريء كما وضحنا و أشرنا في مقال سابق “واعمل حساب الشقلبة: الإباحية أصيلة في الغناء المصري

فكانت هناك أغاني كانت قائمة على فكرة التحايل، هي أغاني جنسية ولكن بشكل متحايل على الكلمات، مثل “إمتى يخش الخِل ويَّا خليله، ويقفش الرمان على السجادة”، لذلك أصبح في تراث المصري والوعي المصري، إن الرمان له صورة جنسية، كما نجد أيضا أغنية  “وادحرج واجري يا رمان”، وغيرها الكثير، لكن يتضح لنا إن التحايل كان يضيف شيء من الجمال والخفة والغزل بجانب وجود الغزل الصريح والجريء والواضح.

لكن يتضح التحايل جليا في الأغنية السياسية، مع زيادة القيود، تخرج لنا الأغنية السياسية بشكل ساخر وجميل، وبالطبع كان يتجلى لنا أحمد فؤاد نجم، والشيخ إمام في تجربتهم في الأغنية السياسية، وتتجلى بشكل واضح في أغنية “البتاع”، التي كتبها نجم معتمدا على خبث اللغة العامية، في لفظ “البتاع“، والتي كانت تورية عن أشياء كثيرة، وكانت القصيدة تهاجم عصر الانفتاح والرئيس السادات.

كان للسادات نصيب الأسد في أغاني التحايل من نجم والشيخ إمام، مثل قوقه وشعبان البقال، وكان هذا التحايل واضح وصريح وجريء، كانت حيلة للهروب من فكرة الهجوم على الرئيس، رغم فهم الجميع إن المقصود منها هو السادات،  وأيضا نجد أغنية مثل “حاحا”، من أغاني نجم وإمام التي قامت على فكرة التحايل.

ربما في نفس الفترة كان هناك أحمد عدوية وانطلاقة جديدة للأغنية الشعبية في ثوب جديد، في ثوب عاد إلى جمال اللغة العامية المصرية الفلكلورية، والتي تحمل كم من التمويهات الكبيرة، فكتب رفيق عدوية، الشاعر والحلاق سابقا، حسن أبو عتمان أغنية سلامتها أم حسن، إهداء لمصر بعد أحداث النكسة، وبعد الانتصار كانت أغنية عدوية “كله على كله” احتفالا بالنصر وكلمات حسن أبو عتمان أيضا.

كان من التحايل الجميل، هو الغناء للوطن في شكل الحبيبة، ودمج المشاعر الوطنية بمشاعر الحب، كان ذلك يحدث من كل الأصوات، أصوات السلطة كانت أو أصوات المعارضة، فتقع في حيرة بين من يقصد المطرب، الغناء لمصر أو الغناء للمحبوبة، مثل أغاني محمد منير في بداياته وبعض أغاني الشيخ إمام، وغيرهم الكثير، كان حليم له نصيب أيضا، عندما كان التحايل على الهزيمة والنكسة، فكانت أغنية “عدى النهار“، وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها، كان الأبنودي أحسن من عبر عن الهزيمة في أغنية بشكل صريح وغير صريح في نفس الوقت.

وغنى محمد منير، في ألبوم شبابيك 1981، أغنية “شجر الليمون” من كلمات عبد الرحيم منصور، إهداء إلى فلسطين والقضية الفلسطينية، وكان شجر اللمون يرمز إلى أرض فلسطين المشهورة بزراعة الليمون، رغم إن الكثير يتعامل مع الأغنية إنها أغنية عاطفية، كما يتعامل الناس مع أغنية “الممنوعات” للشيخ إمام إنها أغنية عاطفية، رغم إنها أغنية سياسية صريحة، هذه اللخبطة كانت من أثر التحايل الجميل.

وكان لفرقة إسكندريلا أغنية ظهر فيها التحايل بشكل كبير، وقدمت الأغنية لأول مرة في اعتصام مجلس الوزراء عام 2011، وكانت الأغنية اسمها “الدباديب“، كان التحايل هنا للبحث عن مساحة أكبر في التعبير، أو ربما كان مساحة من تخفيف الأحداث والبعد ولو قليلا عن جو الهتافات الواضحة والمباشرة.

كانت أم كلثوم قد تحايلت مرة على الكلام، لتحيي الملك فاروق عند حضوره حفلتها في النادي الأهلي عام 1944، وقامت أم كلثوم بشكل سريع وارتجالي، تحايلت على الكلام وغيرت في أغنية “يا ليلة العيد” فقالت “يا نيلنا ميتك سكر وزرعك في الغيطان نور.. يعيش فاروق ويتهنى ونحيي له ليالي العيد”، وغير أيضا في أغنية حبيبي يسعد أوقاته قالت أيضا “والليلة عيد ع الدنيا سعيد.. عز وتمجيد لك يا مليكي”، وبسبب هذا التحايل الجميل من الناحية الارتجال والذكاء، حصلت أم كلثوم في نفس الحفلة على لقب صاحبة العصمة.

كانت السلطات منعت أغنية “يا مصطفى يا مصطفى”، التي لحنها محمد فوزي، للاعتقاد أنها تهاجم ثورة 52، وإن جملة سبع سنين في العطارين، يقصد بها 7 سنوات على قيام الثورة، لأن الأغنية ظهرت عام 1960، وأن المقصود بمصطفى هو الزعيم مصطفى النحاس، وقد غناها المطرب بوب عزام، ومن قبله غناها “بورنو موري” شقيق داليدا، ونجد أيضا في فيلم “رمضان فوق البركان“، أغنية في شكل مونولوج فكاهي، من غناء “سامي علي”، المونولوجست والمطرب، صاحب الأغنية الشهيرة “هما الحلوين علشان حلوين”، وعلى نفس اللحن قدم مونولوج غناها في أحداث الفيلم، وكان يقوم بتقديم عادل إمام في السجن إنه زعيم الحرامية، ومنع الفيلم من العرض فترة أو العرض بدون الأغنية، بعد أن تم التعامل معها إن فيها إسقاط سياسي.

للتحايل أشكال أخرى بعيدة عن السياسة، وتحايل حميد الشاعري على قرار منعه من الغناء من نقابة الموسيقيين، وقدم شيء جديد، وهو “الحكة” وظهرت في فيلم “قشر البندق”، وكانت الأغنية أو هذا الشيء ما هو إلا هروب من فكرة المنع، بدون كلمات أو لحن موسيقي واضح، سنجد فتحي قورة في فيلم “إمرأة في الطريق”، يكتب أغنية “يا صابر”، وهي الأغنية الأكثر غواية في تاريخ السينما المصرية، وهي أغنية تحاول فيها هدى سلطان غواية أخو زوجها “رشدي أباظة”، وستجد الكلام يحمل نبرة جنسية مختبئة وراء الكلام.

وتعطش ليه وقدامك  بحور المية تتمنى

تجيلك بس ناديها وسيب الدنيا لشاريها

خد من الحياة ليلة جمالها يساوى 100 ليلة

كما كتب الشاعر عبد المنعم السباعي، أغنية “بياع الهوى“، وكان يتحدث فيها عن بائعة هوى، كان يراها في مكان ما، ولكنها اختفت فكتب الأغنية يسأل عنها، ولكن في شكل غير صريح شيء ما، ربما لا تفهم ذلك إلا عندما تبحث عن كواليس الأغنية، وقد غناها محمد عبد المطلب، ولحنها محمود الشريف، ومن طلب إلى علي الحجار، ومن عبد المنعم السباعي إلى عصام عبدالله، ومن محمود الشريف إلى مودي الإمام، كانت أغنية “في قلب الليل“، واحدة من أهم أغاني علي الحجار في مسيرته الفنية، وهي الأغنية التي تتحدث عن فتاة ليل أيضا، قيل إنها كانت تجربة شخصية لعصام عبد الله، ولكن بعيدا عن هذه الفرضية ومدى صدقها، فأنت من كلام الأغنية، ستعرف وتفهم إنه يقصد فتاة ليل من سياق الكلام، فعصام عبر عن الحالة من حب شخص إلى فتاة ليل، بكل رومانسية عاطفة جياشة وبسيطة، وكان تحايل جميل وذكي، لأن الأغنية لو كانت كتبت في شكل صريح كان تم رفضها بناء على حكم أخلاقي مسبق ومحفوظ لدى الناس.

كانت هذه لمحة بسيطة من فكرة التحايل في الغناء، التحايل ضد الرقابة، أو التحايل ضد الدولة، أو التحايل على المجتمع والتقاليد، ربما كان التحايل في أغلب الأوقات يضيف بعدا جديدا في الأغنية، وتبقى اللعبة مستمرة بين صناع الأغاني وكل أنواع الرقابة.