شريف حسن

رحل أمل وعاش شعره، مات الألم والوحدة واليتم، واستمر شعره في الصمود والحياة، انهزم السرطان، انتصر أمل، هزمه بالشعر، بالفرح المختلس.

32 عامًا على رحيل أهم شعراء مصر، والوطن العربي “أمل دنقل”، من خلال هذا المقال، نستعرض واحدة من أهم قصائد أمل، قصيدة عمرها يقترب من الخمسين عامًا، كتبت في عام 1967، بعد الانقطاع عن كتابة الشعر لمدة 4 أعوام، انقطاع للقراءة والبحث، عندما كان في الإسكندرية، ليكتب بعد ذلك ديوانه الأول “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” 1969، والتي منها هذه القصيدة، قصيدة “يوميات كهل صغير السن”.

قسم أمل القصيدة لــ 13 مقطعًا، يتحرك فيهم وكأنه يرصد سيرة حياة، ربما تداخلت سيرته الذاتية في القصيدة، في تداخل ناتج عن الصراع بين أمل والشعر، بين الواقعي والخيالي، بين ما حدث وما كان سيحدث، يتحرك بين الوحدة والأصدقاء وفتاة الليل والحب والزواج.

أول مرة قرأت القصيدة، لم أكلمها، قرأت المقطع الأول واكتفيت، بادر ذهني وقتها، سؤالًا كيف استطاع أمل أن يكمل القصيدة، أن يكتب 11 مقطعًا آخرين، في المقطع الأول يختصر أمل الحالة العامة للقصيدة، كأنه يضع موسيقى تصويرية للقصيدة، نحن أمام المذهب، يسمح بتكراره بعد كل مقطع.

يبدأ القصيدة بجملة “أعرف” هذا اليقين الصادق، يقين أمل بنفسه وشعره، ثقته فيما يكتب، كما قال في الفيلم الوثائقي “الغرفة رقم 8″، أنه جاء للقاهرة ليقول شعرًا وعلى العالم أن يسمعه، رغم اليقين في البداية والثقة، لكنه الفشل، الموت بالبطيء، التحلل.

“أعرف أن العالم في قلبي.. مات!

لكني حين يكف المذياع.. وتنغلق الحجرات:

أنبش قلبي، أخرج هذا الجسد الشمعي

وأسجِّيه فوق سرير الآلام.

أفتح فمه، أسقيه نبيذ الرغبة

فلعل شعاعا ينبض في الأطراف الباردة الصلبة

لكن.. تتفتت بشرتُه في كفي

لا يتبقى منه.. سوى: جمجمةٍ.. وعظام!“

المشهدية الدائمة في شعر أمل، وخاصة هنا، كأنك ترى مسرحية من عدة فصول، يتغير الديكور والممثلين، ويبقى الراوي/ المخرج يتحرك بحرية كاملة، يضع الكاميرا في أماكن جديدة وغريبة، وأيضًا كعادة أمل في اختيار الألفاظ والكلمات المعبرة، يستخدم أمل الكلمات بميزان ذهب، لا كملة زائدة ولا ناقصة، والموسيقى الحاضرة دائمًا في كل مقطع.

فتاة الليل.. بين الحلم والواقع

يحب أمل فتاة الليل، يحب معانتها، يرى ما وراءها، يرى فيها رصدًا للواقع والحياة بكل ما فيها من اختلافات وتناقضات، كتب أمل كثيرًا عن فتاة الليل، كتب أشكالًا وقصصًا متباينة، هنا وفي المقطع الثاني يصور أمل، اختلاف النهار والليل عند فتاة الليل، حلم النهار الجميل، حلم الفتاة العادية، الزواج والتنزه، «حالمةً.. بالصيف في غُرفات شهر العسل القصير في الفنادق ونزهةٍ في النهر.. واتكاءةٍ على شراع!»، اختار أمل أشعة الشمس الهادئة الجميلة والأشجار، اختار جوًا جميلًا وهادئًا يناسب الحلم الجميل «تنزلقين من شعاعٍ لشعاع وأنت تمشين –تُطالعين- في تشابك الأغصان في الحدائق».

وفي لحظة واحدة، يجذبك أمل من ياقة قمصيك، يشعل النار في الحدائق وأنت فيها، يقلب الحلم لكابوس، يدخل بك في ظلام الليل والعمل، «..وفي المساء، في ضجيج الرقص والتعانق تنزلقين من ذراعٍ لذراع! تنتقلين في العيون، في الدخان العصبِيِّ، في سخونة الإيقاع»، كم الشفقة والألم والتعب في جملة تنزلقين من ذارع لذراع، «وفجأة.. ينسكب الشراب في تحطم الدوارق يبل ثوبك الفَرَاشيَّ.. من الأكمام حتى الخاصرة!» انقلب المشهد، رغم كل هذا التعب والمعاناة في المشهد إلا أن أمل يؤكد على حب الحياة على البهجة رغم كل ما يحدث، « ثم.. تواصلين رقصك المجنون.. فوق الشَّظَيَات المتناثرة!!»

التصالح مع الوحدة

في المقطع الثالث والرابع، يرصد أمل فكرة الوحدة، المصالحة مع الوحدة، كان الرصد في المقطع الأول غريبًا، رصد خارجي للحالة، لما يحدث في الجوار، وما يحدث في الداخل أيضًا، رصد آثر الفعل لا الفعل، القطة والصباح والذقن النابتة، يكره الوحيد دائما ما يفكره بأنه وحيد «والخطو المتردد فوقي ليس يكف».

دائمًا كان أمل يهيم على وجه في شوارع وسط البلد، حتى بعد الزواج، لم يتغير المشهد، ما تغير فقط هو أن عبلة أصبحت رفيقته الدائمة في كل مكان، يحب أمل الحزن الوحدة، يجيد التعبير عنها.

“في الشارع

أتلاقى –في ضوء الصبح- بظلِّي الفارع:

نتصافح.. بالأقدام!“

أمل.. الحب

الحب من أهم وأقيم العلاقات التي يقدسها أمل، ويهابها أيضًا، كما قال في رسائله لعبلة الرويني بعد ذلك، «ولكن لا تنسي أنني رجل بدأت رحلة معاناتي من سن العاشرة، وفي السابعة عشرة اغتربت من كل ما يمنح الطمأنينة حتى الآن، وأعتقد أن السهم الوحيد الذي يمكن أن يصيبني في مقتل سوف يجيء من امرأة، ولذلك اتسمت علاقاتي دائماً بالرفض» لذلك دائمًا عندما يكتب أمل عن الحب، بكل أنواعه وتطوراته وعبثه وجنونه وضعفه وكبريائه، يكتب بكل جمال وعذوبة.

في المقطع الخامس، الحبيبة في الغرفة المجاورة، الحبيبة تهم بالرحيل، لا يوضح أمل أي تفاصيل عن العلاقة، هل هي علاقة عابرة، أم أكثر من ذلك، هل هو رحيل نهائي أم مؤقت، ترك أمل ذلك للقارئ، ضع أنت كل ذلك التفاصيل، ولكن الشعور واحد، استطاع أمل أن يرصد المشهد الحركي أكثر من النفسي، حتى ما كتبه بين الأقواس «(يومان، وهي إن دخَلت: تشاغلَت بقطعة التطريز بالنظر العابر من شباكها إلى الإفريز..بالصمت إن سَألت!)»، ينهي أمل المقطع/ المشهد، وكأن الإضاءة تتلاشى، والبطلة تختفي تدريجيًا.. «حتى تلاشى خطوها.. في آخر الدهليز»

“بكيت حاجتي إلي صديق“

هكذا قال أمل في نفس الديوان، تحديدًا في قصيدة “السويس”، هنا في المقطع السادس يرصد أمل هذه الجملة بالتفصيل، الشرح الوافي، الحركة هي المسيطرة والبطل، الصورة السينمائية في أبهى وأقوى صورها، وتجسيدها، في شعر أمل ستجد التفاصيل الصغيرة مثل «(تثب القطةُ من داخل صندوق الفضلات)»، يستخدم أمل الاستمرارية في وضع كابوسي درامي حزين، «حتى تصبح قبضتيَ المحمومةُ خفاشًا يتعلق في بندول!»، الموت بالبطيء دائمًا شاغل عقل أمل، الزمن هنا هو البطل، «يتدفق من قبضتي المجروحة خيطُ الدم.. يترقرق.. عذبًا.. منسابًا.. يتساند في المنحنيات»..

“ينفثئ السمّ..

يتلاشى البابُ المغلقُ.. والأعين.. والأصوات

.. وأموتُ على الدرجات!!“

من الشغف إلى الملل “الزواج”

من المقطع السابع وحتى قبل الأخير، يحكي أمل قصة زواج، من البداية وحتى النهاية الدرامية والملل والصمت وربما الطلاق، البداية من التعارف الصامت في مكان العمل، عن الجمال رسم مشهد الغزل الصريح بكل عذوبة، مازالت الحركة هي البطل الرئيس، المشهدية مسيطرة على القصيدة، مع جملة «وعندما ترشقه بنظرة كظيمة فيسترد لحظةً عينيه: يبتسم في نعومة وهي تشد ثوبها القصير فوق الركبتين!»، لا تملك إلا أن تبتسم..

“يريح عينيه على المنحدر الثلجي، في انزلاق الناهدين!

(..عينيه هاتين اللتين

تغسل آثارهما عن جسمها – قبيل أن تنام – مرتين!) “

“الفقر حالة إياكِ والسقوط فيها”، هكذا قال أمل لعبلة وهو يبستم عندما سألته ولماذا الشكولاتة، كان أمل استدان ليشتري سندوتشات وعلبتين سجائر، وهكذا قال قبل أن يقابل عبلة ويتزوجها.

“.. في آخر الأسبوع

كان يعد –ضاحكًا– أسنانها في كتفيه

فقرصت أذنيه..

وهي تدس نفسها بين ذراعيه.. وتشكو الجوع“

كان أمل محبًا للصمت، يجلس بالساعات صامتًا، في بداية نزوحه إلى القاهرة، كانت السينما هي المكان المفضل والملجأ من زحام وضجيج المدينة، تحكي عبلة إنه كان يجلس مع أمه بالساعات دون أي كلام، وعندما سألته عن ذلك قال: “إن ذلك أجمل ما فيها.. إنها تعرف كيف تصمت معي، ربما ذلك يفسر أيضًا صمته مع عبلة في البيت أيضًا، أمل عندما يرتاح مع شخص لدرجة قريبة جدًا، فإنه يفضل الصمت، كما قال في قصيدة “سفر ألف دال”، “أتحسَّسُ وجهكِ (هل أنت طفلتيَ المستحيلةُ أم أمِّيَ الأرملةْ؟!)”

“حين تكونين معي أنتِ:

أصبح وحدي..

في بيتي!“

يقلب أمل الموازين، لا ترتيب هنا ألا بما يراه أمل، يرصد مشكلة الحمل، قبل مقطع ليلة الزفاف، يرصد أمل فكرة الإنجاب، وكيف يواجه الفقر هذه المشكلة، يواجه أمل وزوجته المتخيلة المجتمع، في هذا المقطع، تتصاعد الدراما، لحظة غضب من أمل، لحظة مواجهة المجتمع، والمصارحة، ولا تنسى الحركة والموسيقى في الكلام.

“أفهمته أن القوانين تسن دائمًا لكي تُخرق

أن الضمير الوطنيَّ فيه يُملي أن يقل النسل

أن الأثاث صار غاليًا لأن الجدبَ أهلك الأشجار

لكنه.. كان يخاف الله.. والشرطةَ.. والتجار!“

بعد الزفاف، والزواج، يرصد أمل ملل الزواج وانطفاء الحب ولهفته بكل خفة، «مذ علقنا – فوق الحائط – أوسمة اللهفة وهي تطيل الوقفة في الشرفة!»، صورة جميلة، تتخيل أن للهفة أوسمة تعلق على الحائط، أعتقد أن الفضول في إنك ترى تلك الأوسمة أقوى من مسحة الحزن الساكنة في الجملة، وكيف تتصاعد المشاكل على نفس المستوى من الخفة والجمال.

“واليوم قالت إن حبالي الصوتية تُقلقها عند النوم!

.. وانفردت بالغرفة!!“

في المقطع الأخير، يعيد أمل نفس المقطع الأول، المذهب الرئيس، الموسيقى الخلفية للقصيدة، تأكيدًا على كل ما سبق، على كل هذه الآلام والوحدة واليتم والفشل في الحب أو الزواج، أو الصداقة، ولكنه يضيف له كلمة واحدة، كلمة واحدة تجعلك ترى المشهد من زاوية جديدة، كلمة واحدة تفتح لك أسرار القصيدة، كلمة تؤكد أن كل ما سبق ليس مرتبطًا بوقت أو شخص أو مكان، هو شيء يحدث يوميًا، الحديث مع الذات قبيل النوم، التفكير فيما مضى ومصارحة الذات ومكاشفتها، وربما كان يقصد أمل النوم الأكبر.. الموت.. الرحيل..

“لكن.. تتفتت بشرتُه في كفي

لا يتبقى منه سوى.. جمجمةٍ.. وعظام!

…………………………………………. وأنام!!“

“حين ترينني عاجزًا، تمني لي الموت.. فهو رحمتي الوحيدة” آخر ما قاله أمل لزوجته وحبيبته ورفيقته وصديقته عبلة الرويني.

نشر في موقع التقرير عام 2015