شريف حسن

16 عام من الدم المباح والمذابح والحصار والدمار، حرب أهلية في ظاهرها، لكنها حرب تدافعت فيها أطراف خارجية أكثر من الأطراف الداخلية، حرب يقدر عدد ضحاياه بــ١٥٠ ألف قتيل و٣٠٠ ألف جريح ومعوق و١٧ ألف مفقود وهجرة أكثر من مليون نسمة.

أغلب شعراء هذه الفترة تورطوا في الحرب، ولكل شاعر تورطه، فمنهم من لزم الصمت أثناء الحرب “أنسي الحاج”، ومنهم من شارك كجندي في الميلشيات “يوسف بزي، ومنهم من رحل بعيدًا عن قارة آسيا بأكملها “وديع سعادة”، ومنهم من عاش ورصد الأحداث “محمود درويش”، “محمد الماغوط”، ومنهم من لم يتحمل فكرة الحرب ودخول إسرائيل بيروت “خليل الحاوي”.

“سئمتك أيها الشعر، أيها الجيفةُ الخالدة

لبنان يحترق

يثب كفرس جريحة عند مدخلِ الصحراء

وأنا أبحثُ عن فتاة سمينه

أحتكُّ بها في الحافلة

عن رجلٍ عربي الملامح، أصرعه في مكانٍ ما.

بلادي تنهار

ترتجفُ عاريةً كأنثى الشبل

وأنا أبحث عن ركنٍ منعزل

وقرويةٍ يائسة، أغرّر بها.

يلعن الماغوط الشعر والحرب موضحًا إنه لا يريد ألا ركن منعزل وفتاة، انتشرت الدعارة وقت الحرب، ولكنه يبحث عنها بعيدًا عن الحرب، يجلس الماغوط وحيدًا يشاهد الحرب والدمار.

“أربعةُ شعوبٍ جريحة، تبحث عن موتاها.

كنت جائعا

وأسمع موسيقى حزينة

وأتقلب في فراشي كدودة القز

عندما اندلعتْ الشرارة الأولى.”

يقف وديع سعادة بكل هدوء يلخص المشهد، وكأنه يتجول في شوارع بيروت في لحظات الهدنة، ينقل المشهد كما هو..

“هذا هو المشهد

مع شيء من الإثارة لامرأة

تحبل في وسط الشارع

ورأس على الرصيف لا يتسلَّمه أحد

كتب درويش الكثير عن الحرب، بداية من أحمد الزعتر ومذبحة تل الزعتر ومديح الظل العالي، وقصيدة بيروت، نهاية بفلسفة الحرب نفسها، مثل قصيدة “سيناريو جاهز” أو مقطع “يموت الجنود مرارًا ولا يعلمون إلى الآن مَنْ كان منتصرًا” في قصيدة لاعب النرد. 

وفي الحرب تأتي المعجزة، درويش يقدم المقاومة في شكل معجزة، فنرى درويش يصرخ في مديح الظل العالي “ حاصِرْ حصَارَكَ … لا مفرُّ سقطتْ ذراعكَ فالتقطها واضرب عَدُوَّكَ …لا مفر. وسقطتُ قربك، فالتقطني واضرب عدوكَ بي …فأنت الآنَ حُرٌّ، نجد الماغوط يأمر الأبكم أن يصرخ

“لبنان .. يا امرأةً بيضاء تحت المياه

يا جبالاً من النهود والأظافر

اصرخ أيها الأبكم

وارفعْ ذراعك عالياً

حتى ينفجر الابط، واتبعني

الحرب تدغدغ المشاعر، يولد الحب من رماد الحرائق والدمار، لا لبنان الوطن ولكن لبنان المكان، هذا الحيز وما يحمله من ذكريات وقصص، يترجى الماغوط لبنان ويقول:

“ضمني بقوة يا لبنان

أحبُّكَ أكثر من التبغِ والحدائق

أكثر من جنديٍّ عاري الفخذين

يشعلُ لفافته بين الأنقاض

لأن ملايين السنين الدموية

تقف ذليلةً أمام الحانات

كجيوشٍ حزينةٍ تجلس القرفصاء

ويقف درويش كأنه يتغزل في فتاة، لا مكان، ليقول في بداية قصيدته “بيروت”

“تفاحةٌ للبحر، نرجسة الرخام، فراشةٌ حجريةٌ بيروت شكل الروح في المرآة وصف المرأة الأولى ورائحة الغمام بيروت من تعب ومن ذهب، وأندلس وشام. فضّة، زبد، وصايا الأرض في ريش الحمام. وفاة سنبلة، تشرّد نجمة بيني وبين حبيبتي بيروت.

ولكن كان لوديع سعادة رأي أخر، استخرج الوطن من الروح والجسد، ربما عطسة واحدة كافية لفعل ذلك، ولكن السؤال هل نجح وديع في سحب لبنان من صدره؟

“لبنان، لبنان، وراءك ارتجافات مهجورة.

أرى خرطومَ مدفعٍ في أنفك، مستودعَ جثثٍ في عينيك، وشحاذاً يتبعه كلب على

صلعتك.

لبنان، هذا دولار لك، انصرفْ.

أريد عطوسًا. يجب أن أسحب لبنان من صدري.

ويؤكد الماغوط ما قاله في بداية قصيدة “حريق الكلمات”، وينهي القصيدة بتهديد واضح، ويربط موت لبنان بموت الشعر والتكسع، هكذا يريد الماغوط، ليالي عن الشعر والتسكع في شوارع بيروت، هي مدينة الجمال والشعر والخمرة.

لا أشعارَ بعد اليوم

إذا صرعوك يا لبنان

وانتهت ليالي الشعر والتسكع

سأطلقُ الرصاص على حنجرتي. 

التناقض سر الحروب، نجد من يتغزل في لبنان ومن يريد أن يلفظها خارج دائرة الذاكرة والجسد، نجد أيضًا التناقض في الشعر الإسرائيلي عن هذه الحرب، فبينما يقول الشاعر الإسرائيلي “يهودا عميحاي” في قصائد الحرب والسلام 1982 ترجمة “رؤوبين سنير”.

“ذات مرّة انفجرت قنبلة

قرب دكّان جزّار:

اللحم المذبوح

ذُبِح المرّة تلو الأخرى،

ولكنّ الألم ينعدم

وليس هناك دم تقريبًا.

نجد “أفرايم سيدوم” يعلن بكل صراحة وضوح كره للعرب وخاصة أطفال صيدا وصور.

“يا أطفال صيدا وصور..

إني أتّهمكم..ألعنكم لأنكم مخربون..

ستنامون محطمي العظام في الحقول والطرقات..

لا تسألوا لماذا.. فإنه العقاب..

والآن حان عقابُكُم.

ويقول الشاعر الإسرائيلي” يهونتان غيفن” في قصيدته صبرا وشاتيلا

صرخ الجمهور.. صرخت أنا أيضًا.. اقتلوهم.. احصدوهم.. اذبحوهم.. نريد أن نرى الدماء في صبرا وشاتيلا

هكذا يرصد الشعر الحياة، يرصد الحرب والدمار، والهروب والانسحاب، يؤرخ الدم المباح والحب، الشعر حياة دون كذب، مهما كان الشعر كاذب، فأنه يرصد صوت حقيقي داخل روح كاتبه، صوت من الخيال، من العقل الباطن، جف الدم، وانتهت الحرب، رغم اشتعال غيرها من الحروب، ولكن انتهت الحالة، أصبحت ضمن كتب التاريخ، الروايات، دواوين الشعر.

نشر في موقع التقرير عام 2015