يتم رياض الصالح حسين، هذا الشهر عامه الــ 60، ولكنه عاش أكثر من نصف ذلك، ولد رياض في حلب 1954، وسط أسرة فقيرة وكبيرة، مصاب بمشاكل في كليته، طفل يدخل مستشفى المواساة بدمشق، يدخل ليعالج كليته المتعبة، ليخرج بعدها وقد فقد سمعه، خطأ طبي كان كفيل أن يغير مسار حياة هذا الطفل، ليخرج من المستشفى أصم متحدثًا بطريقة صعبة ومختلفة، كل ذلك حدث في عام النكسة 1967.

“سأحدِّثكم بحبّ، بحبّ، بحبّ

بعد أن أشعل سيجارة!”

الحب هو السبيل والحافز والكنز والحلم، الحب هو الحياة، الماء والهواء، هو كل شيء للشاعر السوري “رياض الصالخ حسين”، يصرخ وينفعل ويثور كل ذلك تحت تأثير الحب، الحب هو البطل والجمهور والمخرج.. كذبة جميلة.

“الكذبة الوحيدة التي تستحق التصديق هي الحب”

للتعرف على رياض، نقرأ رسالته إلى صديقه الشاعر “منذر المصري”، يخبره فيها:

“حياتي كالعادة، مليئة بالعمل، فيها حب أيضًا، حب ودموع وأشعار رومنتيكية. ويمكنني دائماً أن أحلم بشكل رائع بالحياة، إذا لم يكن ثمة حياة.”

حرمان من إكمال الدراسة بسبب الخطأ الطبي، رحلته في تثقيف نفسه بنفسه، والهروب للشعر وبه في نفس الوقت، لا تعلم إيهما كان وقود الآخر، الحب أم الشعر؟، من يشتعل كي يولد الأخر من رحم التوهج، هذا الشاب المحروم من وقع الحروف في الأذن، “ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ”، هكذا قال أبو نواس، وهكذا فعل رياض، اختار الحروف كي ترافقه طوال حياته، وكي يخلد فيها أساطيره اليومية، أساطير الرجل السيء، ..

” أيتها السكاكين المسكينة

أيها الجسد الإنساني القذر

أيتها الكلاب المعبأة بالمقانق والمحبة وعبير النعناع

أنا رياض الصالح الحسين

عمري اثنتان وعشرون برتقالة قاحلة

ومئات المجازر والانقلابات”

بالتأكيد وقع رياض في الحب، تورط حتى الغرق، وغرق حتى تحللت مشاعره في بحر العشق والشغف، دائما يرتبط الحب بالموت والدم والدمار، يعلم جيدًا أن الحب والحرب تؤممان ملتصقان، ربما لا تعرف أنت تفرق بين الحالتين، ينفجر بطلقة كعاشق يملئه العشق، «وكجندي مهزوم عائد من حرب عادلة سأنظر دائمًا إلى الأسفل راكلاً الحصى والمتاعب ببوز حذائي وأنا أفكِّر بالمجهول!»، والحب عند رياض؛ حب يملئ العالم، ولكنه يعلم علم اليقين إن لا مكان للحب هنا، ولا السلام، «وغصن الزيتون مشرط لاقتلاع جلدة الرأس.»

“منذ القبلة الأولى على رقبتك الطويلة

وحتَّى الحرب العالميَّة الثالثة

التي لم تأتِ بعد

كنت أوزِّع الحبّ على النازحين

وهم يوزِّعون بطاقات الإعاشة

كنت أوزِّع الحبّ على السجناء

وهم يوزِّعون الصدمات الكهربائيَّة”

بكل تأكيد عاش رياض العديد من قصص الحب، لتجده يقدم في قصيدة “حب”، تعريفًا للحب، للحياة، «أن تشرب كل يوم برميلاً من بول الموتى، وتأكل ستّ فؤوس وصمامًا لعنفة معطلة، أن تعبئ قلبك بمصانع الأحذية والثلوج الملوثة، بالطين والأرانب المسلوخة ببلطة كان يجب أن تقطع عنق نابليون أو غارودي أو تقطع عنقك، أن تموت بشكل مناسب وبإذعان فأرة وجدت نفسها في مصيدة فولاذية ولا أبواب أو نوافذ للريح».

الأنسة (س)

كل من اقترب من رياض أو من شعره، يعلم أن الأنسة “س” هي الحب الأعظم في حياته، حياته الشعرية قبل الشخصية، هي سمر، «ذات الشَعر الخرنوبي الخفيف، “س” التي يركض في شَعرها حصان هائج وساقية أنين، تبيع (الشيكلس) في المحطات حتى الغروب، وتعود إلى بيتها بصدر معبأ بالليل والنجوم، والأحلام اليابسة وقصاصات الجرائد».

هكذا وصفها رياض، المشهدية الواضحة في الوصف، تؤكد إن رياض يغزل من اليومي البسيط كقصائد خالدة، يخلط اليومي مع الأسطوري، من الشيكلس إلى الصدر المعبأ بالليل والنجوم، ترى أيضا في قصيدة “عيد للقبلة… أعياد للقتل”، ترى مشهد البداية، يسقط في الحب..

“منذ سنة صدمت امرأة وحيدة في الشارع

تلبس بذلة باهتة ولكن عينيها لامعتان

صرنا أصدقاء بسرعة

وبعد أيام تبادلنا القبلات والأحلام

وكان اسمها: س –

بين جزء “الأنسة س” من قصيدة “الحب”، وقصيدة “عيد للقبلة… أعياد للقتل”، تظهر سمر الحبيبة الصديقة الرفيقة، سمر الحياة، رياض يجعلك ترى سمر، تقع في حبها، في هدوئها وجنونها، ربما كانت سمر سراب، ولكنها كانت أيضًا «تحب غرفة صغيرة في قطار، وكتابًا لرامبو تخبئه بين ملابسها الداخلية في حقيبة سوداء تحت السرير، وكانت، أيضًا، تحب الأعياد والأطفال، وتكره الجواسيس والقتلة القانونيين، كان اسمها: س، ضفيرتان من أوراق البرتقال والملمس الناعم تحب الرمل والقبلة.»

يخبر صديقه الشاعر منذر المصري، إن لا شيء جديد، وربما سيتزوج، ويطلبه أن لا يسأل من هي، فهو لا يحب الفضولين، وفي رسالة أخرى يطلب منه غرفة ليسكنها مع زميلته أو قل صديقته أو حبيبته أو خطيبته أو زوجته… والله أعلم!؟، يكفيه سرير واحد والبحر وصديقه، ومرة أخرى يعلن عن زواجه وإن الطفل يقرع الجدران، يتمنى أن يسرق حفنة من الأيام ويركض للبحر، رحلة قصيرة مليئة بالحب والمرض والصمم، صرخات صامتة مكتومة وأنين من الحياة وحب للبحر والفاكهة، خاصة التفاح والبرتقال، سمر هي الصراع والجائزة والعدو، وهي صاحبة الأسئلة..

“فمن احتسى دموعك بدلاً من الفودكا بالبرتقال؟

ومن أكل ابتسامتك بدلاً من فطائر الكبد المشوي؟

فمك مغلق، ولسانك مصفّد

تُرى، هل تختبئ في فمك أغنية أم نقالة موتى؟”

ثلاث داوين، ثلاث سنوات على التوالي 1979، 1980، 1981، من خراب الدروة الدموية، إلى الأساطير اليومية، ثم الوقع في فخ “بسيط كالماء واضح كطلقة مسدَّس”، ولتكن النهاية مع الديوان الرابع والأخير “وغل في الغابة”، تجد نفسك دائمًا حاضرًا في شعر رياض، كأنه يتحدث عنك، رياض يجعلك ترى التفاصيل البسيطة، يطرح الأسئلة المولودة من رحم صراعات الروح والشعر، ولا تنسى المرض، وقلة المال والعمل، والوحدة أيضًا، رياض هذا الطفل العابس، المبتسم للمارة والأم الأرض تحمله، «الطفل الذي يرضع الحمّى من ثدي الأرض»، هو البسيط لدرجة إنه يهدى صديقه منذز فنجان قهوة وبرتقالة وخمس تفاحات، كلهم له تتصورا؟!، ويحكي له في رسالة أخرى عن سعادته بشراء بدلة جديدة ورابطة عنق وحضوره بها حفلة رأس السنة.

البساطة في الحب، رؤية بسيطة لدرجة إنها تجعله يرى الأمور بكل هدوء، فتصبح الرؤية واضحة صادمة، ولا تنسى أن الحرب والحرب رفيقان، وأن العالم لا يتسع لكلاهما، «إنسان بسيط أنت، تريد أن تأكل وتتزوج وترقص!، جسد حبيبتك شمس، إذا اقتربت منها ستحترق، كفّا حبيبتك مدينتان، إذا دخلتهما ستصاب بالانفصام، شفتا حبيبتك رغيفان، إذا أكلتهما ستصاب بالتخمة»، لذلك تجد البساطة والدمار في مشهد كأنه نهاية العالم..

“جلسَ العاشقان على العشبِ

جلسَ العاشقانْ

خلفهما جثة لا تحدُّ

وبينهما جثة ودخانْ”

  «العدالة هي أن أركض مع حبيبتي في أزقّة العالم دون أن يسألني الحرّاس عن رقم هاتفي أو هويّتي الضائعة»، بهذه الرؤية والبساطة تجد الأنسة (س) ترحل في النهاية، توهب نفسها للبحر..

“الأمر الوحيد هو أنها قدّمت نفسها للبحر

كما تقدم الأم حلمة ثديها لأول مرة

للوليد الجديد

والبحر الواسع، الصاخب، الممتلئ

تلقف جسدها بشفتيه الرقيقتين وسكت

أما هي..

فلقد ضمّته إلى صدرها بقوة و.. عاشت

كانت امرأة وحيدة

بلا أساور أو بيت أو عشيق

ولذا قدّمت نفسها للبحر

فهل هذا شيء مثير للاهتمام؟”

ينهي رياض قصيدته بكل بساطة وهدوء، يضع القارئ في فخ الاختيار، الفخ إنه لا اختيار، في الاختيارين ستخسر، مقطع يجمع صراع الشاعر والحياة، كيف يعبث بخياله، وفي نفس الوقت يعلم مدى عبث الحياة، سمر رحلت من حيز مكان رياض قبل أي رحيل آخر، خلاصة قول رياض “الحياة خسارة”

“أصبحتُ في الثالثة والعشرين

رجل بوجنتين شاحبتين ومستاء للغاية

ودعت (س) بعد أن تركت على عنقها

دمعة حارة كالفلفل

وها أنذا أعمل لأشتري لها تفاحة ورغيفًا

ولكن تمة من أخبرني

بأني سأجد في التفاحة دودة

وفي الرغيف صرصارًا ميّتًا

فإذا تركت الرغيف والتفاحة سأموت

وإذا أكلتهما سأموت

وفي الحالتين سأخسر نفسي

في الحالتين سأخسر س”  

استمرت الكلية في الفشل، واستمر رياض في نزيف الحروف، تلتهمه الوحدة والوحشة قبل المرض، لم يعالج على نفقة الدولة، لم يتلفت إليه أحد، حتى سمر تركته وتركت ندبة في القلب وثارت الكلية على الجسد، فنهار رياض، ماذا شعر رياض وجسده الصغير المنهك وعمره الأصغر وهو يدخل نفس المكان للمرة الثانية، بعد 15 عام، يحجز رياض في نفس المستشفى الذي فقد فيها سمعه، والذي بعد أيام قليلة سيفقد فيها روحه أيضًا.

ليرحل رياض يوم 21 /11 / 1982، 28 عام فقط هو من عاشهم رياض، وحصيلته الشعرية أربع دواوين، رحل من قال “لا تسألوا سمر عن قلبي، فالأسئلة البسيطة قذيفة، الأسئلة المعقدة انتحار”، هكذا لخص رياض حبه وحياته، سمر وقلبه والبساطة في الأسئلة وفي إجابتها والانتحار هو الحل للهروب من الأسئلة الوجودية المعقدة، يرحل رياض هربا من الإجابة على سؤاله في نهاية قصيدة “حب”..

“ماذا نفعل إذا كان ثمة عيد واحد للقبلة

وأعياد كثيرة للقتل ماذا نفعل؟”

نشر في موقع التقرير 2015