شريف حسن

يعد فؤاد حداد واحدًا من أهم من كتبوا شعر العامية، وحاربوا به، وهو “أبو العامية المصرية” الذي يدين له شعراءها كافة بالفضل؛ إذ نقل حداد شعر العامية من منطقة الزجل إلى شعر يقف أمام الفصحى بكل ثبات وقوة.

أصيب حداد بجلطة في القلب عام 1977، ومع الجلطة أصيب بجفاف أدبي استمر حتى عام 1979، ثم عاد بعد شفائه لكتابة الشعر بقوة: كان يكتب كل يوم، قائلًا عن ذلك: “عاوز ألحق قبل ما أموت”. وبالفعل، استمر في الكتابة بنهم حتى وفاته عام 1985، وكتب ما يقارب من ثلثي أعماله في هذه الفترة، ومات قبل أنا ينشر نصف أعماله تقريبًا، ووصل عدد دواوينه إلى 35 ديوانًا، منها 17 ديوانًا نُشرت أثناء حياته.

لكن رغم ذلك، فهو صاحب أقل عدد من القصائد –المقروءة أو المسموعة- المتاحة على شبكة الإنترنت، ولا يوجد موقع خاص به يحوي قصائده وأغانيه، وهو ما سنحاول تداركه في هذه السلسلة، عبر نشر بعض قصائده، في محاولة لإعادة اكتشاف الجمال الذي تم خيانته بالتجاهل.

***

اعتُقل حداد عام 1950، بسبب انتمائه للمنظمة الشيوعية المصرية: “الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني” “حدتو”، وكانت تلك هي الفترة التي كتب فيها قصيدة اليوم، كما اعتقل مرة ثانية عام 1953 وحتى 1956، واعتقل مرة أخيرة عام 1959 وحتى 1964؛ وهي المدة التي قضاها في سجن الواحات.

سيرة حداد وأشعاره توضحان لنا أنه كان يمارس ما يكتبه، يفكر ويقاوم فيُسجن، فيكتب الشعر، ليبقى الفكر والشعر أحرارًا مهما طال السجن والتعذيب.كما يتضح لنا أنه من قديم الأزل وكل من هم ضد النظام يتم التعامل معهم بالسجن -كحالة فؤاد حداد وغيره- أو بالنفي -كما حدث مع بيرم التونسي.

قبل اعتقال حداد للمرة الأخيرة، كان شعره كله منصبًا على السياسة والوطن، لكن مع وجوده في سجن الواحات اختلف الموضوع: كان للسجن هذه المرة فضل على حداد بشخصه وعلى شعر العامية بشكل عام، وربما أثارت فترة سجن الواحات في حداد أسئلة أبعد من فكرة الوطن والمكان والزمن والحدود، أسئلة عن العالم بكل ما فيه، وكل ما حوله من جماد وحيوان، عن الصمت، واللغة، وكأن فكرة أن تسجن ولا يبقى لك شيء إلا الحروف وتراكيبها، دفعته لأن يصنع بهم كل شيء، ويرصد كل ما يدور داخله أو حوله، حتى أن يشرح بهم الصمت نفسه.

في تلك الفترة تغير شعر حداد تغيرًا جذريًا، لينعم علينا حتى يومنا هذا، وإلى يوم الدين، بأجمل ما كتب في شعر العامية، إذ تحول لمخترع أداوته هي الحروف والكلمات، وتوغل في كل المشاعر الإنسانية، لينقل شعر العامية إلى مكانة ينافس فيها قصيدة الفصحى، بداية من الفكرة وصولًا إلى التراكيب والصور، حتى إن حداد قال بنفسه: “الشكر للي سجنوني وبنيل وطمي عجنوني”.

في وسط ما يحيط بنا حاليًا من حالات اختفاء قسري، واعتقالات دون توجيه أي تهم واضحة، ووسط كل هذا الظلام والحزن والعجز الكامل، نتذكر مع حداد ديوانه الأول “افرجوا عن المسجونين السياسيين” 1952، الذي تم تغييره بناءً على طلب الرقابة إلى “أحرار وراء القضبان”، وهو الديوان الذي كتبه وهو في المعتقل في السجون الملكية ما قبل ثورة 52. وبرغم أن الديوان كُتب قبل أكثر من 60 عام، ألا إنه صالح للاستخدام حتى الآن. وبعيدًا عن تأويل القصائد بأكثر مما تحمل، يبقى أقوى ما فيها هو سخرية التاريخ من الحاضر بشكل عام، ومن حال هذا الوطن خاصة.

في قصيدة “أهدي قصايدي” -أول قصائد ديوان “أحرار وراء القضبان”- يصرخ حداد من السجن، ويحكي عن الوضع العام، وكأنها نبوءة لما حدث في ثورة 1952، أو لما حدث في ثورة 25 يناير، أو ما سيحدث في ما بعد. يهدي حداد القصيدة لكل المعتقلين بلا تهمة واضحة، لكل الأبرياء في السجون، غير المعروف منهم قبل المعروف.

وفي نهاية القصيدة يقول حداد جملته التي ربما تكون أكثر جملة ملخصة لحال الكثيرين في وقتنا الحالي: “اليأس موت بالأمل دايما أتممها”.

***

أهدي قصايدي

أهدي قصايدي جهاد وجهاد أقدمها

لكل مين عاش قصايدي قبل ما أنظمها

قصايدي فورة غضب ما قدرت أكتمها

غنّاها قلبي وجرح القلب قسّمها

في مصر سوق الذمم العمر موسمها

في مصر رب الشرف والنخوة مجرمها

أفواهنا لو نطقت بالحق كممها

أنوفنا ريحة النتن والكبت شممها

عيوننا سهد استلمها وجهد سلمها

رجلينا تحمل جسومنا والا توهمها

إيدينا لنتاج إيدينا، منع تقدمها

إن أوشكت بالكلبش الأعمى يصدمها

أرواحنا مالهاش تمن في الوحل يختمها

أجسامنا قربان لرب الحرب يولمها

شدت شعورها الصبايا البؤس يتمها

عرى حيطان السجون جبار وعتمها

بردت نجوم السما متلفّعه بغيمها

رأيت بلادي يصبوا الشر في جحيمها

حفرة مساخر جبال آسيا ما تردمها

نزعت من صدري ريشة ورحت أرسمها

قصايدي صرخة معذب طال عذابه ما طال

إلا شتات من نوازع قلبه ترجمها

يا معذب الجماهير يا ظالم اظلمها

ومن حياة الكفاف الضيقة احرمها

جموع تجدد شبابك وأنت تعدمها

يا معذب الجماهير يا باغي كوّمها

في السجن بالجملة عمال فلاحين طلبة

مجاهدين مجهدين على البُرش نيمها

وسطوتك شهوتك في الخلق حكمها

راكن على جيوش غريبة بكرة نهزمها

اللي ما حيلتوش مداس حيدوس على رقبتك

واللي بنى صروحك هو اللي يهدمها

قصايدي بنت الجهاد هتّافه هتّافه

اليأس موت بالأمل دايما أتممها

نشر في موقع مدى مصر عام 2015