شريف حسن

 “الجوهرة المصونة
والدرة المكنونة
زوجتنا فاطنة أحمد عبد الغفار
يوصل ويسلم ليها 
في منزلنا الكاين في جبلاية الفار”

البداية المعهودة والجوهرة المصونة والدرة المكنونة?? الوصف الغريب الذي لم يفسره الأبنودي حتى الآن، مع الجواب الثالث والتاني من حراجي لفاطنة، يأخذ الشكل الرسمي إلى حد كبير تمهيد لباقي الجوابات، توصيات وتعليمات لفاطنة، وما بينهم من شعر ووصف المشهد في أسوان وإحساس السفر والغربة المخيف.

أول مقطع، روتيني بسيط متوقع، وبالتأكيد فهو مقصود، يجبرك الأبنودي على الدخول داخل تفاصيل الحياة، لست بقاريء أو مستمع عابرا، بل أنت فرد من العائلة، تعيش كل تفاصيلها وأدق الأسرار، الفلوس الملابس حصاد السفر لأكثر من 3 شهور.

أما بعدْ..

فهذا تاني خُطاب..

باعتين طيّه ما قدرنا المولى عليه..

وعنبعتلك في ظرف الجمعة.. طرد 

الطرحة والجزمة بتوعك..

وكساوي عزيزة وعيد.

دوّرت الحسبة فراسي وقلت يا واد يا حراجي..

هوه يعني قانون العيّل ما يدوقشي الكسوة..

غير في العيد؟

أمّال كيف العيِّل حيحسبابوه جنبه

إذا كان الأب بعيد؟؟

 المقطع الثاني وهو بداية البعد عن الرسميات والدخول للمشاعر، البداية في أسوان و على رأي صديقه الفلسطيني “أم البدايات”، بعد الوصف والصور البسيطة “بحر من ولاد الناس”، يدخل في اللعبة اللي يفشل فيها أغلب شعراء العامية الآنوهي المصرية الخالصة، لعبة حداد في الأصل وجاهين والأبنودي من بعده، المراكز والقرى والنجوع في مصر، وعلى سبيل المثال لا الحصر أغنية “تعالى نلضم أسامينا” لفؤاد حداد، وأيضا في قصيدة العروسة “دوقي قلبي خسّ مليجي“، مليجي قرية مشهورة بزراعة الخسّ، وصلاح جاهين في العمل إلى المتكامل “الليلة الكبيرة“، “ده أنا الأسطى عمارة من درب شكمبة. صيتي من القلعة لسويقة الللا”، وغيرها من الأعمال لنفس الشعراء أو غيرهم.

من سوهاج لشبين الكوم، ومن الأقصر للإسماعيلية، رحلة من الصعيد للفلاحين لمدن القناة، تأكيدًا على تعبيره السابق بحر من ولاد الناس، واختياره للقرى ووقع أساميها على الأذن بما تحتويه من موسيقى بسيطة وخفية.

إللي من “جرجا” واللي م “البتانون

واللي من “أصفون” و “التل

بداية من هنا يكثف الأبنودي جوابه، أسلوب الجمل القصيرة المختصرة، عالية الموسيقى وبسيطة على عقل مثل عقل فاطنة، وتماشيا مع الغربة المحور الرئيسي في الجوابات عامة وهنا بالأخص، “جدعان زي عيدان الزان”، كانت هذه الجملة وماسبقها تمهيدا للسؤال والجواب الأشهر في الجواب الثالث والجوابات عامة ومسيرة الأبنودي الشعرية ككل، صورة من داخل الجو العام لحياة حراجي وفاطنة، صورة لا تشعر بشذوذها عن تخيل عامل الأنفار غير المتعلم أو زوجته.

“عارفة يا مرتي الراجل في الغربة يشبه إيه؟

عود دُرة وحداني ف غيط كمّون.”

ومن الغيط للعطار ومن الذرة والكمون للغلة عامة، والصورة السينمائية لشعور حراجي، تصوير المشاعر بهذه الدقة السينمائية أمر صعب وبالأخص إن كان محكوما بصور معينة تصلح للجو العام للنص وللعامية بشكل خاص، وقبلها جاءت صورة العين مشقوقة، يحول الأبنودي الحقيقة لصورة شعرية، من شكل العين المشقوق بالفعل في الوجه لصورة تعبر عن القلق والخوف والغربة الموحشة.

والبال..زي الغلّة اللي بتسرسب من يد الكيّال

موعد كسر القواعد، الرجل يبكي، خائفا ضعيفا، ينادي على زوجته على أطفاله، نداء الرجاء أصعب من النداء للمساعدة فهو يعلم إن فاطنه والأطفال ليس بمقدورهم مساعدته، ولكنه نداء للدفء، نداء للبيت للوطن، نداء التائه واستغاثة الضعيف بالضعيف لا للنجدة ولكن للاحتواء، يؤكد الأبنودي على بداية الجواب والحديث عن أسباب السفر الأزلية المال والكسوة في شكل حوار مع الذات، استخدام كلمة “مرتي” تجبرك على الدخول داخل المشهد دون شعور.

“وندهن عليكم قلت: يا فاطنة أنا بانده..
سامعاني ؟!
سامعينّي يا عيال؟!
النبي لولا الخوف واللومة من الرجالة..
لاركبت القطر وعدت
قبل ما أروح لموظف
قبل ما أردّ سؤال.
وقعدت أعقّل نفسي وأقول: يا حراجي يا بوي
أمّال جيت ليه ؟
الخايفمالغربة ما يجيشْ
اتحمّل علشان كسوة عيدْ..ورغيف العيش
لكإنّك رحت “الديش”…
من خوفي يا مرتي
قعدت أهدّي الرجالة.”

أخر الجواب كأوله ومرتبط به في الشكل الروتيني والأوامر والطلبات، كأن الأبنودي سرق جوابا حقيقًا كُتب من زوج لزوجته وأضاف إليه بعض المقاطع، لم يتخل الأبنودي عن موسيقى الكلام طوال الجواب، حتى في اختيار أسماء الأشخاص “عمران”، “بمبة الصباغ”، “الحاج التايب”، وجملة “سلمي على كل اللي لينا فيهم نايب”، تختصر الكثير من الكلام وتنقلك أكثر لجو القرية بكل ما فيه من ود واجتماعيات.

“فاطنة..أول ما تفكّي الخمسة جنيه
اطلعي ع الفور..
وادّي حساب “عمران” وجنيه “بمبة الصباغ”
والباقي زيحوا بيه القارب
لما يعدّلها الرحمن.
سلّمي ع الوِلد..وع “الحاج التايب”
بلا كتر كلام
سلّمي على كل اللي لينا فيهم نايب”

المقطع السابق استخدمه المخرج حسين كمال في فيلمه “البوسطجي” 1968 المأخوذ من رواية البوسطجي ليحيى حقي وظهر المقطع في الدقيقة 1:20:00 كخلفية لشكري سرحان بصوت الأبنودي وهو صغير ومن الواضح إنه مقطع من الجوابات في شكلها الأول.

يأتي المقطع الأخير أمر لفاطنة، أن تحل محله لا في الواجبات والتعاملات ولكن في شعور الأطفال، هنا يؤكد الأبنودي على القارئ/المستمع إنه كما وضح في الجوابات السابقة، أنت أمام أنثى بكل ما تحمله الكلمة لذلك هي قادرة على فعل ذلك، وربط ذلك بنظرته لوجه الأطفال فقط.

واوعي يا فاطنة لما ارجع وأبص في وش اللّولادْ..

أعرف إن أبوهم كان غايب.

ينهي حراجي الجواب وهو في انتظار الرد وهو يشعر كأنه سافر لجبلاية الفار ورأى فاطنة والأولاد ورجع إلى أسوان والسد.

وإحنا هنا بنستنى الجوابات بفروغ صبر
طول ما الجوابات رايح وجاية..
اعتبري كإني باجي أشوفك وآجي

نشر في موقع قل