لا أحد لا يعرف علي الحجار، ولكن من يعرف ويعلم قيمة والده الملحن والمطرب “إبراهيم الحجار”.

أدي اللي كان، وأدي القدر وأدي المصير.. نودع الماضي وحلمه الكبير

هكذا غنت ماجدة الرومي من كلمات صلاح جاهين لحن كمال الطويل في فيلم “عودة الأبن الضال”، من منا لا يعرف ماجدة الرومي، ولكن من يعرف ويعلم قيمة والدها الملحن والمطرب “حليم الرومي”، مكتشف فيروز ومقدم ومشجع مطربين آخرين؛ كسعاد محمد وفايزة أحمد ونازك ونصري شمس الدين، وأيضًا

تبدأ الحكاية في مدينة بني سويف عام 1922، عندما ولد طفل لأب وأم كفيفين، مات أولادهم الستة، ليبقى هذا الطفل هو كل ما لهم في الدنيا الظلماء، وقد سماه والده إبراهيم، وألحقه بالكتاب ليحفظ كتاب الله، ثم أدخله مدرسة المعلمين، وفي هذه الفترة تعلم إبراهيم عزف العود وحفظ ما حفظ من الموشحات والأدوار والطقوطقات، وورث جمال الصوت من والده الشيخ علي الحجار وحبه للشيخ علي محمود، وبدأ يغني في الموالد والأفراح، ووصل صيته خارج حدود مدينة بني سويف.

إبراهيم يغني في سرادق عزاءه


وصل صوت الطفل إبراهيم الحجار حتى الصعيد مصر، وتحديدًا مدينة أسيوط، وسافر إبراهيم بالقطر ليغني في فرح ويعود في اليوم التالي، وكان الفرح في “دهبية”، وهي العوامة المقامة على النيل، ولكن تأخر إبراهيم، وطالت الغيبة حتى وصلت لشهر، وكان ذلك وقت الحرب العالمية الثانية، حتى صرح أحد أصدقاء إبراهيم أن قنبلة سقطت على الدهبية ومات كل من فيها، ومن ضمنهم إبراهيم الحجار، فما كان من والده الشيخ علي ألا أن يقيم العزاء ويرضى بما كتبه الله.

إبراهيم الحجار


ولكن حدث ما هو غير متوقع، فقد رجع إبراهيم ووجد سرادق عزاء، فدخل ليقوم بالواجب، دون أن يعلم إنه هو المتوفي، وفي لحظة دخوله صرخ من صرخ وكبر من كبر، ووقف الشيخ علي يصرخ بكل ما يملك من قوة صوت “يا زينب أبنك رجع أبنك حي”، ليجلس إبراهيم مكان المقرئ، ويمسك عوده ويغني، ليتحول الموت إلى حياة، والحزن إلى فرح.

كان سر غيابه طوال الشهر يرجع إلى إنه خلال غنائه في الفرح شاهدته ابنة مدير الأمن وأعجبت به وطلبت من والدها أن يعلمها العزف على العود، وخلال الشهر نشأت قصة حب بينهما، وطلب منها أن يعود لرؤية والديه حتى يطمئن عليهما.


سافر إبراهيم إلى القاهرة وعمره 22 عام، والتحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية، ونجح في امتحان الإذاعة لاختبار الأصوات الجديدة وبدأ في الغناء فيها عام 1945.

بدأ إبراهيم الحجار الغناء في الإذاعة أسبوعيًا، وخلال هذه الفترة وبالتحديد عام 1948، قدم إبراهيم الحجار أولى أغانيه الخاصة، “عزيز على القلب” من ألحانه ونظم محمود أبو الناس، أصبحت الأغنية هي الأشهر لإبراهيم الحجار، أغنية مخادعة للزمان وللمستمع، تتوهم إنها أغنية قديمة لأحد عمالقة الغناء مثل داوود حسني أو سيد درويش، صنع إبراهيم لحنًا رقيقًا وعذبًا، لحنًا يتناسب شكلًا ومضمونًا مع الكلمات، كانت الأغنية من أعظم الأغاني التي صنعت خلال هذه الفترة.


إبراهيم الحجار، صاحب الصوت العذب، صوت يجبرك على الاسترخاء، على الهدوء الجميل، طوال فتره غنائه يرغمك على نسيان كل ما عندك من هموم ومشاكل، أنت الآن في فلكه ولا شريك له، يدغدغ مشاعرك بأقل مجهود، صوته كالماء، لا تعرف ماهيته، ولكنه كالساحر يجعلك تحت سيطرته طوال فترة غنائه دون أن يهتم بالأساس بك، فهو يغني لأنه يحب الغناء، ويحب ما يفعله الغناء داخل روحه وقلبه.

إبراهيم وعلي وأحمد الحجار


قدم إبراهيم أيضًا الأغنية الدينية، كقصيدة ذكرى من ألحانه وكلمات أحمد يحيى وصفي، وأغنية “
صلى يا رب وسلم على النبي طه السعيد” من كلمات الإمام أبو العزائم.

الحجار؛ اسم العائلة الذي كان يفتخر به إبراهيم، لذلك عندما طلب منه محمد الشجاعي مسؤول الموسيقى والغناء بالإذاعة في وقتها أن يغيره لأنه ليس اسمًا فنيًا، رفض إبراهيم وقال له هل تجرؤ على طلب نفس الفعل مع فريد الأطرش، وحدث خلاف بينهم، كان على آثره منع إبراهيم الحجار من الغناء في الإذاعة عام 1955.


غنى إبراهيم أغنية “يا خاين” بعد ثورة يوليو لكل من يقول الشائعات ضد الوطن، إبراهيم كان عزيز النفس، لا ينحني لأحد، راضيًا بنصيبه، ترك الإذاعة في هدوء، وفي الستينات تم تعينه في الأوبرا وتم تكوين فرقة التي أطلق عليها فيما بعد فرقة الموسيقى العربية، كان يغني “صوليست” وأيضًا ضمن الكورال وراء المطربين، ويحكي علي إنه رضا بالغناء في الكورال كي يستطيع أن يعول بيته، نصف جنية هو مرتب النمرة الواحدة وراء مطرب، وكانت احتفالات ثورة يوليو تعتبر عيد لعلي وأحمد أولاد إبراهيم، لأن إبراهيم يعمل وراء 6 مطربين، ليعود للبيت ومعه 3 جنيهات، ليشتري الكباب وطبق الحلوى.


في حضرة عازف القانون عبد الفتاح منسي وعود منير بشير يغني إبراهيم الورد جميل، وكأنه بستان يفوح بكل روائح الزهور، وكأنك ترى الزهور وتتعلم، وتسمع صوته لتتعلم كيف يكون الغناء من القلب بكل بساطة وخفة.

علي الحجار يستمع لوالده


الأبن علي أصبح شاب، وقد بدأ طريقه في الغناء، واختير ليغني في ذكرى المولد النبوي “بردة الأمام البوصيري” في أواخر السبعينات، مع زينب يونس، وفي صحبة عمالقة المسرح والألقاء عبد الوارث عسر، عبد الرحيم الزرقاني، حمدي غيث، محمد الطوخي، محمد السبع، ومن إخراج المسرحي كرم مطاوع، ولكن كانت المشكلة؛ إن كورال الموسيقى العربية سيكون من ضمن الكورالات المشاركين في هذا العرض الضخم التابع للدولة، سيقف الأب خلف الأبن، التلميذ أصبح هو القائد، والمعلم يقف في الخلف وسط الكثرين، يرفض علي هذا الأمر، يرفض وكأنه يريد أن يقف ويقول هذا هو الأصل، هو الأب المعلم، هو صوته وبكل ثقة ويقين أعظم وأجمل من صوتي قليل الخبرة، وإبراهيم بكل هدوئه المعتاد يبتسم، ويترجى إبنه ألا يحرمه من هذه اللحظة الجميلة، من أن يسند ابنه وهو يصعد سلم النجاح، أن يرى ما كان يتمنى أن يحققه، قد نجح في أن يحققه ابنه، وافق علي بعد صراعات دامت لإيام، بعد تدخل الأم، صاحب الصوت الجميل أيضًا، ليغني علي ويرد عليه والده من وسط الكورال.


احيل إلى التقاعد من الأوبرا في بداية الثمانينات، ولكنه استمر في التدريس في المعهد العالي للموسيقى العربية، وقد تعلم على يديه الكثير من مطربين هذا الجيل أمثال: أنغام، أحمد إبراهيم، مدحت صالح، نادية مصطفى، شيرين وجدي، أنوشكا، وشارك في برنامج “صالون زمان يا طرب” بصحبة أفراد من فرقة الموسيقى العربية، ونسمعه يغني معهم من ألحان داوود حسني طقطوقة “على خده يا ناس”


وقد غنى إبراهيم من ألحان محمد الموجي أغنية “
أمانة عليك يا طير غني“، وفي بداية التسعينات شارك ابنه علي التمثيل في مسلسل “بوابة الحلواني”، ويظهر وهو يعزف العود مع شرين وجدي “ألمظ”، وهي تغني موشح “صحت وجدًا” لسيد درويش.


في منتصف التسعينات، والنهاية الجميلة، وفي حفلة أضواء المدينة والتي غنى فيها علي وأحمد الحجار، كان من بين الحضور إبراهيم الحجار، وقد غنى مع علي جزء قصير من أغنيته عزيز على القلب، غنى إبراهيم المذهب الرئيسي للأغنية مرتين حتى يترك ابنه يغني، لينسحب كالأصل وهو يترك ظله في المكان، إبراهيم هنا أيقن أن علي هو من سيكمل الطريق وقد كان، ليقول إبراهيم لعلي وأحمد: “أنتم دخلتوني الجنة انهاردة”.


ليغيب بعدها إبراهيم عن الأضواء وكأنه اتم رسالته، ليجلس في بيته حتى تصعد روحه الجميلة لخالقها وهو ساجد يوم 4/9/2000، رحل ومازالت جملته الشهيرة المقتبسة من الشيخ “عبد الكريم الجيلي”، ترن في أذن كل ما قابله، “وكل قبيح إذا نظرت لقبحه أتتك معاني الحسن فيه تسارع”، لنسمع يا بهجة الروح من ألحان سيد درويش وغناء إبراهيم الحجار بصحبة أولاده الثلاث؛ علي وأحمد ورأفت.


رحل إبراهيم بعد أن نزع كل الصور المعلقة في صالة البيت ولم يترك ألا صورة علي، علي من غنى بعد ساعات من وفاة والده لأنه كان مرتبط بحفلة في مهرجان الأغنية العربية، وبكى علي وهو يغني عزيز على القلب، وكأن لسان حاله يقول يا أبي أنت حقًا عزيز على القلب، وتمر الأيام ليصبح الحفيد مطربًا أيضًا، أحمد علي إبراهيم الحجار، ونسمع تسجيل للحفيد وهو يغني وراء جده في لحظة تختزل الزمن العنيد، وتجمع الجد و الأبن و الحفيد.

نشر في موقع كسرة 11/ 2014