“الصحراء كيان معتزل، والكيان المعتزل هو الكيان القادر على أن يتأمل. وصاحب التأمل هو صاحب الصلاة. وصاحب الصلاة هو صاحب النبوة”.

ظلت هذه المقولة للكاتب الليبي “إبراهيم الكوني” من كتاب “وطني صحراء كبرى”،  تدور في ذهني لمدة 100 دقيقة، هي مدة الفيلم الأردني الطويل “ذيب”، وأنا أشاهده في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 36، عام 2014، قبل وصوله إلى القائمة النهائية في جوائز الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي، لأول مرة في تاريخ السينما الأردنية، وحصد مخرجه لجائزة “البافتا” البريطانية كأفضل عمل أول.

تبدأ القصة من فكرة فيلم قصير كتبها منتج الفيلم “باسل غندور”، قصة عن أخين بدويين تأخذهم الرحلة في الصحراء لمواجهة مغامرات وصعاب، ولكن بعد أن أرسلها لصديقه المخرج “ناجي أبو نوار”، كان الاقتراح صناعة فيلم طويل، وقد كان، فيلم جديد على السينما الأردنية خاصة، والعربية عامة.

تعود قصة الفيلم إلى فترة الإمبراطورية العثمانية والحرب العالمية الأولى عام 1916. يعيش  الطفل ذيب، بطل الفيلم، وسط قبيلته في زاوية منسية من الإمبراطورية العثمانية، بعد وفاة والده شيخ القبيلة، مع حسين الأخ الأكبر لذيب، الذي تقع عليه مسؤولية تعليمه، ويبدأ الفيلمبأبيات من الشعر النمطي البدوي.

يخرج حسين كدليل مع ضابط في الجيش البريطاني ودليل له، بأمر من الأخ الكبير مسئول القبيلة بعد والدهم، للوصول إلى بئر على طريق الحجّاج القديم إلى مكة المكرمة، وفي لحظة صبيانية متهورة يتبعهم ذيب راكبًا حمارًا صغيرًا، ليبدأ الفيلم والمغامرة والرحلة المحفوفة بالمخاطر عبر الصحراء العربية، والتي أصبحت منذ اندلاع الحرب العالمية الأولى، أرض مواجهات بين المرتزقة العثمانية والثوار العرب والمغيرين من البدو، في الرحلة يواجه ذيب كل مخاوف الحياة ما بين الثقة والخيانة والموت والمرض والوحدة والليل والبرد القارس والجوع، كل ما قد يواجه الإنسان في حياته.

التورط سيد الموقف، كلنا هذا الصبي “ذيب”، الشغف بالتجربة والتورط، دون حساب عواقب الفعل والتجربة. نحن كائنات متورطة بطبيعتنا، ونحن أيضًا هذه الكائنات المتخلية عن الأشياء، يداهمنا الملل فنهرب بعيدًا، دون حساب  عواقب لفكرة الهرب والتخلي.

معظم ما قرأته عن الفيلم، يذهب إلى تناول المخرج “ناجي أبو نوار”، القصة بزاوية فيلم “لورنس العرب” والصحراء والحروب، وينتمي الفيلمان  إلى فترة زمنية واحدة، كما يشير  أبو نوار إلى أن الفيلم يمكن اعتباره من أنواع أفلام الغرب الأمريكي “وسترن”، كأفلام المخرج الأمريكي “جون فوود” أو المخرج الإيطالي “سرحيو ليون”، ولكن بتناول مختلف، تناول من ناحية البدو، أبناء الصحراء الأوفياء لها، وكشف لحياتهم، وتصرفاتهم في الصعاب وسط هذه الصحراء الشاسعة.

ولكني رأيت ذيب  أكبر مثال واضح للإنسان وصراعاته الداخلية، بداية من التورط، ومرورًا بحب الاكتشاف، كهوسه باكتشاف الصندوق الخاص بضابط الجيش البريطاني، أو الساعة الشخصية وصوت العقارب.

يسقط ذيب في البئر، ويسقط المشاهد معه، نجح أبو نوار في توريط المشاهد في الأحداث المبهمة كالحياة، نجح هو وكل صناع الفيلم، من مدير التصوير “ولفغانغ تالر”، والموسيقى التصورية للموسيقي “جيري لين”، والمونتير “روبرت لويد”، وأيضًا الديكور “آنا لافيل”.

يقول كاتب الصحراء وابنها البار “إبراهيم الكوني” في حوار له: “إن الغربة إعادة تشكيل الروح، إعادة اكتشاف نفسك من الداخل، فهي لا تعطيك شيئًا من الخارج”، وهذا ما حدث مع ذيب بعد التيه في الصحراء، فالصحراء هي الذات الشاسعة، بكل ما فيها من تناقض وخوف، حسين الأخ ما هو ألا صورة للصبي ذيب، لذلك عند موته، ينهار الصبي، فقد مات حلمه، مات ذيب في صورته الكبيرة، يجلس بجانبه لا يعرف ماذا يفعل، هكذا يفقد الإنسان تدريجًا معنى الحياة، ولكنه يهاب الموت أيضًا، ويرفضه.

في ظلام البئر ضيق المساحة، بعكس كل مشاهد الفيلم الواسعة، نتذكر الفيلم القصير الأول للمخرج، “مات الملاكم” عن بطل الملاكمة الأردني “محمد أبو خديجة”، والكادرات الضيقة والمظلمة، التي تقدم صراعًا خارجيًا مع العالم، بعكس الصراع الداخلي المقدم على هيئة صراعات خارجية في “ذيب”.

ذيب في البئر بعد أن رحل أخوه. لم يبق شيء. يواجه  الحياة دون أسباب للبقاء، وإنما هي فقط غريزة البقاء، الغريزة التي ليس لها أيديولوجيا، كما قال الشاعر محمود درويش في قصيدة “سيناريو جاهز”، عليه الصعود ومواجهة الحياة الغيب، عليه مواجهة نفسه، فذيب هو حسين وهو الضابط وهو قاطع الطريق، كل هذه الأشخاص التي تتصارع في الصحراء، هي نفس الصراعات التي تدور داخل النفس، كلنا نحمل الخير والشر والغموض والخيانة إذا لزم الأمر، كلنا نتصارع داخليًا داخل أرواحنا، نأكل بعضنا ونصل إلى محاولات للقتل أو القتل نفسه.

نجح الفيلم في الفكاك من هوة أفلام المهرجانات والجوائز، ولكنه نجح أيضًا في حصد الجوائز في أكثر من مهرجان، فحصد جائزة أفضل مخرج في مهرجان فينسيا السينمائي الدولي في تظاهرة “آفاق”، وفاز بجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان أبو ظبي السينمائي، كما فاز بجائزة النقاد السينمائيين الدوليين، “الفيربشي”، كما نجح جماهيريًا، لذلك اضطرت إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، إلى تخصيص عرض ثالث بعد أن تجمع الجمهور مطالبين مشاهدة الفيلم، وهو الآن قاب قوسين أو أدنى من الفوز بجائزة أوسكار أحسن فيلم أجنبي.

يركز الفيلم بالطبع على فكرة الثورة العربية، والربيع العربي، أو “خيبات الأمل” كمصطلح أكثر صدقًا وإيلامًا في نفس  الوقت، ولكنه أيضًا يضع المشاهد أمام نفسه، واجه نفسك قبل أن تواجه العال. وكما قال باسل غندور، منتج الفيلم والمشارك في كتابة القصة: “إذا كُتِب لذيب البقاء على قيد الحياة، فلا بد أن يتعلم عن الرجولة والثقة والخيانة ليصبح اسمًا على مسمى”.

نشر في مدى مصر عام 2016