محمد منير، هذه الظاهرة الغريبة، بكل ما تحمله من تناقضات وتباين بين الظن والواقع، بين الحلم والحقيقة، «قبل ما تحلم فوق واحلم وأنت فايق»، محمد منير هو المطرب الأهم في الثلاثين سنة الأخيرة، وربما الأذكى أيضًا.

ما ألحقتش أول يا ساتر ولا قلبي خدله ساتر.. عاشق اعشقني..كاره اكرهني..

كورنيش الإسكندرية – سابا باشا – 1996

طفل لم يتعدى العشر سنوات، يجلس وفي إذنه سماعات “الوكمن” الخليجي، ليستمع إلى ألبوم محمد منير “من أول لمسة”، لم يعرف ما سر، أهه سحر السماعات، أم الموسيقى، بالطبع ليس الكلام، رغم إنه يتذكره من وقتها وحتى الآن..

وبين الهجوم عليه، اتهامه بالخيانة، و الدفاع عنه من باب من حق الكينج يدلع، والإشكالية الوجودية في التعامل مع المطرب وآرائه واتجاهاته السياسية، لن اتدخل في هذه الإشكاليات، ولكن السؤال الأهم بالنسبة لي كان.. من إين يأتي محمد منير بكل هذا الصدق وهو يغني؟

من البداية، وظهوره مع أحمد منيب، سترى محمد منير يقدم أغنية “الصندل” لأحمد منيب، ثم يقترب ليجلس بجانبه وهو يغني، يلعب على الطار بكل استحياء، هذا الصدق في صوته، الصدق الممزوج بالحزن والفرح.

 

 على استحياء، يغني في جلسات أستاذه ومعلمه منيب، تسمع هون يا ليل “نوبي”، وتشاهده يغني جزء من “وتعالي نلضم اسامينا”، بصحبة منيب ورومان بونكا، يصل لأعلى درجات النشوة، صوته يرسم الكلام، يكون جاهز لتستقبله الأذن والقلب، يحدث تداخل بين صوت منير ومنيب، لكن محمد منير أصبح قادرًا على تخطي الخطأ والاستمرار في الغناء، أصبح منيب الآن كورس لمنير، أصبح التلميذ أستاذًا.

 

لم يكن غير صوت جميل، شاب يحب الغناء، يخطفه السلم الخماسي، ينتشي لصوت الطار، يسبح معه حتى أعماق أعماق الليل، محمد منير يهيم عشقًا بجلسات الغناء، يحب روحه وهي تعانق السماء، ويحب الشهرة أيضًا، لا أكثر ولا أقل.

بين كلام الأغاني، والتحريض، والثورة على الظلم، والاختلاف عن السائد في لون الموسيقى وطريقة اللبس والغناء، حتى طريقة الغناء ولف السلك حول رقبته، مشروع يقترب من الكمال.

كل ما سبق، وبالنظرة الطفولية، جعلنا نضع منير في مكانة خاصة، أصبح الكينج، لكن مع الأيام والسنين، تتضح الحقيقة رويدًا رويدًا، محمد منير ليس ألا حنجرة وذكاء، مع بعض العوامل التي ساعدت على ظهوره في هذا الشكل، من بين اللون والتاريخ الخفي للنوبة والمأساة في التهجير، وتعطش المناخ المصري لما هو جديد، لمواكبة الانفتاح، محمد منير يستغل كل ذلك، ويُستغل أيضًا؛ من ملحنين وشعراء ومثقفين، من منطلق المنفعة المتبادلة.

السر.. الصدق

 

يغني محمد منير عروسة النيل في جلسة على الطار، يتحرك قلبك مع صوته، ترقص على دقات الطار الخفيفة، الطار واللغة النوبية، تعيد لمنير روحه السمرة، روح النوبة، يغني عصفور على الطار، تبكي معه وهو يغني أتحدى لياليك يا غروب على الهواء، تبتهج وهو يدندن “قلبي مساكن شعبية” بكلامها الأصلي، يأخذك خيالك وتسرح في السماء، وهو يغني بجانبك “كان ماشي على شط النيل”، وفي الخلفية صوت الأستاذ والأب الروحي “منيب”، عن الاقتراب من الكمال في أغنية صفصافه، وتوزيع رومان بونكا، ومزاج محمد منير وهو يقول “افردي شراعك حنان.. حافرد أنا نيلي”.

 

يجلس في جلسات السمر، منتشي من آثر البهجة، يغني فيبتهج، ويبتهج فيغني، فيخرج الغناء صادقًا لا يريد منه إي مقابل، ألا البهجة اللحظية والنشوة من الغناء.

الحفلات.. جلسات سمر ضخمة

هو من نحب، منذ سمعت منير لايف، لا أشعر بأغاني الأستديو، صوت منير لا يحب القيود، يحب الجلوس في حلقات سمر، ربما اتسعت الحلقة لتصبح حفلة، لكنها مازالت تحافظ على روح السمر، البهجة والمزاج شعار الحفلة، تغني معه في الحفلة، ربما لا تنظر له ولا تشعر بوجوده، كأنك تغني مع أصحابك، أو وسط الشارع والمارة، لا يهم فأنت وصلت لنشوة الغناء مثله تمامًا، يخطأ محمد منير كثيرًا في كلام الأغاني، كأنه واحد منا لا يحفظ كلام الأغنية، لكنه يحب الغناء، يحب بهجته، فقط لا غير. ومن هنا يأتي الصدق..

 

محمد منير عندما يقول كلام الأغنية قبل غنائها، توقع أغنية مختلفة، الحياة للحياة من حفلة مكتبة الإسكندرية، ضحكته وهو يغني الجيرة والعشرة من حفلة نادى هليوبوليس، توزيع جديد لساح يا بداح في حفلة GUC، غنائه لأغنية قديمة أو غير متوقعة في حفلة، عطشان من أحد حفلات الأوبرا في رأس السنة، وناي عبد الله حلمي، الحزن المضاعف بجانب صوت منير، يصدمك بأغنية مثل يا اماه في حفلة شم النسيم 2010، والصدق المريح في الغناء، ولا تنسى آثر النشوة، الترنح الجميل على المسرح، كما في أغنية “رزقنا” في مهرجان الدانوب 2003.

 

غنائه لقمر رحيلي في الساحل الشمالي، ليبدأ الأغنية بالكوبلية الأخير فيها، المزيكا والتوزيع في حفلة السلام بألمانيا 2007، منير خارج مصر يهتم بالموسيقى أكثر، يغني بالنوبي أكثر، يختار أغاني مختلفة، جديدة، وذكية، كغنائه للأغنية السودانية “إزيكم” في السودان.

 

ضاعت البهجة واختفى المزاج، عندما كسر منير طقوس الحفلة “السمر”، الجميع يعلم إن البداية من أغنية “هيلا هيلا”، والنهاية مع “اشكي لمين” وصوت محمد منير وهو يعرف ويشكر فرقته الموسيقية، اختنقت النشوة عندما غنى من وراء سلك شائك، ووسط قنابل الغاز في حفلة أكاديمية المستقبل، ضاع الصدق، تحولت جلسات السمر لحفلة عادية لمطرب مشهور في الساحل الشمالي.

جلسة سمر.. تلفزيونية

 

يحب البراح، الغناء على سجيته، ينطلق من هذا الود والخفة، ليصل للنشوة المطلوبة، في البرامج التلفزيونية، لا يخشى الغناء، يغني مع نجوى إبراهيم في برنامج استديو 84، تبتهج مع صوت صفاء أبو السعود في أغنية الفرحة من برنامج ساعة صفا، غنائه العظيم المقترب من الكمال والنشوة في برنامج ليلتي، البهجة المتبادلة مع حسين الإمام وأغنية الشتا.

 

يغني عنيكي تحت القمر لعادل أمام في تكريمه، بصحبة عازفة الهارب منال محي الدين، بهجة الغناء بصحبة وجية عزيز والحلوة أميرة، صراعه الخفي مع عبد الله حلمي في برنامج العاشرة مساء، وجملته لعبد الله حلمي بعد غنائه للأغنية مرتين “كنت عالي أوي يا عبد الله فضحتني”، أو غنائه للأغنية النوبية اباياسا عو في برنامج واحد من الناس مع عمرو الليثي.

 

محمد منير وبعد كل ما فعله من بعد الثورة، ينكشف أمامنا، لم يكن منير مطربًا صاحب رسالة، أو محرضًا، كما كان يقول ويدعي، منير ما هو ألا شاب نوبي يحب جلسات السمر بما فيها، صديق يحب الغناء وسط أصدقائه/جمهوره، صاحب مزاج، يصل للصدق بالنشوة، ويصل للنشوة بالغناء، أصبح لا يهمني ما يفعله خارج هذه الجلسات، حتى لا أهتم بما يقدمه في ألبوماته الجديدة..

منير وبعد كل ما فعله من بعد الثورة، ينكشف أمامنا، لم يكن منير مطربًا صاحب رسالة، أو محرضًا، كما كان يقول ويدعي، منير ما هو ألا شاب نوبي يحب جلسات السمر بما فيها، صديق يحب الغناء وسط أصدقائه/جمهوره، صاحب مزاج، يصل للصدق بالنشوة، ويصل للنشوة بالغناء، أصبح لا يهمني ما يفعله خارج هذه الجلسات، حتى لا أهتم بما يقدمه في ألبوماته الجديدة..

في النهاية وكما فعل محمد منير في حفلة الأوبرا 2008، عندما غنى مدد في نهاية الحفلة وبعد الأغنية الأخيرة “اشكي لمين”، نشاهد كواليس تسجيل أغنية مدد، يغني منير بكل نشوة، وكأنه أمام الجمهور، يغني بكل صدق، ويقطع غنائه عند جملة “الدم كله سواء حرام بأمر الله”، متسائلا بكل طفولية؛ “الدم كله إيه؟ سِواء ولا سواء؟، ماحدش فيكم فالح؟” لنسمع صوت أحد من داخل الاستديو يؤكد له إنها سواء، ومعناها أن الدم كله واحد!!، يجهل منير معنى الكلمة، يجهل ما يغني، ولكنه يحب الغناء، وهذا كل ما في الأمر، لا أكثر ولا أقل.

 

نشر في موقع كسرة 2015 

الجزء الثاني