كل ده كان ليه؟ السؤال الوجودي الذي طرحه مأمون الشناوي، وما زال السؤال يجلس بمحاذاة أصدقائه من الأسئلة الوجودية التي لا إجابة لها وعلى رأسها سؤال بيرم التونسي: هو صحيح الهوى غلاب؟

ربما كانت هذه الأسئلة مصدر إلهام مهم للملحن كي يبدع في اللحن، كي يصنع لحناً وجودياً كما في الكلام، لحناً يتسع صدره لكل التأويلات والإجابات، فاللحن عماد الأغنية من أهمله خسر، وخسرت الأغنية.
 
محمد عبد الوهاب الملحن والمطرب الأذكى في تاريخ الأغنية العربية، قرر أن يكون اللحن على نهج الطقطوقة، فكان المذهب ثم الأغصان وإعادة المذهب بين الأغصان، واستخدام مقاماً واحداً وهو المقام البياتي.
 
والبياتي كما ذكرنا من قبل في حديثنا عن أغنية «ست الحبايب»؛ هو المقام الأوسع انتشاراً بين المقامات، وهو مقام إلهي كما قال أحد الشيوخ، وأغلب المقرئين يبدأون قراءتهم من هذا المقام لذلك يقال عليه أيضاً مقام قرآني.
 
وهو مقام بسيط ومتباين المشاعر، فهو ذو طابع شعبي في بعض الأحيان كالسيرة الهلالية والمبهج أيضاً كأغنية التراث على الدلعونة، وهو العاطفي الهادئ كأغنية سألوني الناس، وهو العاطفي المرتبك والمزدحم كأغنية جانا الهوى، وهو المحزن والمحير والوجودي هنا في «كل ده كان ليه».
 
المقدمات في الأغاني أو المفتتح في القصائد، ما هي إلا قول كل ما سيقال بعد ذلك بشكل مكثف دون شرح أو دون أن تقول شيئاً، هكذا اصطلحنا عليه أنا وصديقي في جلسة على القهوة، هنا استخدم عبد الوهاب القانون في البداية لترد عليه الكمان والتشيلو، ليكمل الكمان حتى نهاية المقدمة ويظهر الإيقاع تدريجياً، والجملة الموسيقية تعاد وكأنك تائه تبحث عن إجابة، والتيه هنا تيه في المكان، تيه يصاحبه هدوء، بداية تهيئك لما هو قادم، دعوة للاسترخاء والتأمل في السماء، ربما تسقط عليك تفاحة أو تجد إجابة للسؤال.

«كل ده كان ليه لما شفت عينيه.. حن قلبي إليه وانشغلت عليه»

 
جملة بسيطة جدًا هي المذهب، الكمان يفصل بين كل جملة، والإيقاع مستمر في مرافقة عبد الوهاب، لينهي عبد الوهاب المقطع في الجملة الرئيسية في المذهب وفي الأغنية، السؤال الوجودي «كل ده كان ليه».

«في ليالي الصيف.. في خيالي طيف»

الغصن الأول وما زلنا مع البياتي، والكمان يفصل بين الجمل بكل سهولة وهدوء، المختلف هنا تطويل عبد الوهاب في «في ليالي الصيف..في خيالي طيف»، إنها ليالي وطيف وشخص سارح في الملكوت، لا بد من التطويل، مساحة من التفكير أكثر، يحاول عبد الوهاب أن يقف بعيداً ويتركك مع طيف، وكأنه يخجل أن يقطع عليك خيالك وخلوتك مع الطيف الضيف.

«غاب عني بقى له يومين»

يتغير الإيقاع، لترقص رقصة لا تعلم ماهيتها، رقصة مجروح أم رقصة فرح، ولكنها هي الأقرب للتذكر والانتظار، فالذكريات دائماً لا ماهيّة لها، مفرحة مبكية، ويصعد عبد الوهاب لمقام الراست سريعاً في جملة «احترت أشوفه فين» ليعود بعدها للمقام الرئيسي، لينهي الغصن بسؤال وجودي فرعي «وإن شفته حاقول له إيه؟» ليعود للمذهب الرئيسي مرة ثانية بكل سهولة دون أي ملل.

«خلاني أبات أناجيه.. كل ده كان ليه»

الغصن الثاني كما الغصن الأول، يترك عبد الوهاب صوته في كلمة أناجيه، لتذوب في جمال وحيرة المناجاة، حتى تذوب الكلمة أيضاً مع المذهب وتجد مرة واحدة عبد الوهاب يرجع إلى المذهب لتنتهي الأغنية بكل سهولة وجمال دون لحظة ملل واحدة.
 

«ليه بيحرمني من سؤال عني وافضل استناه.. لو يكلمني كان يطمني ع اللي بتمناه»

 
يا شاغلني ليل ونهار بغرام ما اقدرش اداريه.. شوف قلبي وشوف النار اللي انت قايدها فيه»
الغصن الثالث والأخير في الأغنية، وغير المغنى في أي تسجيل، وهو ما لم أجد له تفسيراً، ربما كان هذا أكبر تأكيد على أننا في محراب أغنية وجودية بكل ما تحتويه الكلمة من معنى، والغريب في القصة أنه لم يجرؤ أحد على غنائه، رغم أنه سيغنى على اللحن نفسه الخاص بالأغصان السابقة، ليبقى الغصن الثالث في الخيال فقط.
 
هي أغنية نجاة وغناها عبد الوهاب منها، أم هي في الأصل أغنية عبد الوهاب، الأكيد أن الأغنية موجود بصوت الاثنين، وهي أغنية تجذب أي صوت جميل كي يغنيها، فغناها مطربون كثيرون، مثل عفاف راضي، وماجدة الرومي، مديحة عبد الحليم، أنغام، على الحجار، عمرو دياب، صابر الرباعي، أصالة نصري، المطرب السوداني محمد وردي، المطربة المغربية رفيعة غيلان، المطرب «الإسرائيلي» يعقب مراد، وعزفها عازف الكمان أحمد حفناوي، وعازف الناي محمود عفت، وعازف القانون عبد الفتاح منسي، وبكل تأكيد غناها وعزفها آخرون.

«هذا سؤال الآخرين ولا جواب له»

غناها أيضاً سمير جبران مع فرقته «الثلاثي جبران» في حفل تأبين محمود درويش، وحكى أنه سمع درويش يدندنها وهو يصنع قهوة الصباح، ربما كان درويش يغبط مأمون الشناوي على هذه الجملة، عاش درويش حياته كلها بيحث عن إجابة لهذا السؤال ولم يجد، ليرد درويش على نفسه «هذا سؤال الآخرين ولا جواب له».

لكن ما السر؟

يكمن سر جمال اللحن، إضافة لعذوبته وبساطته وانسجامه مع الكلمات، في كونه لحناً فضفاضاً، لحناً يشبه السؤال الوجودي واسع التأويل والارتجال، لحناً واسع المدى كالبحر، لحناً يشبه الأرقام؛ لا نهاية له، هكذا صنع عبد الوهاب اللحن، لذلك فهو لحن يجذب كل صوت جميل كي يبدع فيه، كي يصل للنشوة ويعانق السماء بأحباله الصوتية، لحناً يعرج للسماء ويناجي من فيها.
 
عبد الوهاب أذكى منا جميعاً، وذكاؤه ليس محض صدفة، فهو يعلم كل العلم ما يصنع من ألحان، فهو يعلم أن هذا اللحن سيجذب كل صاحب صوت حلو ليغنيه، ويبدع فيه، ففعل هو ذلك، في حفلة بنادي سلاح الفرسان يوم 2 ديسمبر 1954، في حضور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وغنى كل ده كان ليه، وترك صوته يسبح في الفضاء، يصول ويجول بين المقامات، لم يترك مقاماً إلا واقترب منه، لم يترك مساحة من الارتجال واللعب بصوته إلا وفعلها، وكأنه يقول بكل بساطة فليسبح من يسبح، أما انا فأجلس على شاطئ الآخر أتابع ما يحدث في فضاء لحني، مبتسماً من نشوة الانتصار والخلود.
 
 

نشر في موقع كسرة عام 2014