شريف حسن

الحياة في الظل، لا ثرثرة ولا ضوضاء، ربما هي جميلة لصاحبها، وربما لم يجد غيرها من الحيوات، ممتعة لمحبي تتبع الظل وأثر الفراشة، حزينة لمن يجني الميراث والتراث، لا شهرة في الحياة ولا حقيقة في الموت، تقيد الحياة ضد مجهول، والموت أيضاً.

الفنان الإسكندراني عزت عوض الله، اسمه الحقيقي مرقص عوض الله باسيلي، عامل بسيط في مصلحة التليفونات بسنترال الفتح وجليم، ولد عام 1934، في كرموز بالإسكندرية، يهوى الغناء منذ الصغر، يغني في الأفراح والمناسبات، ليشبع رغبته وليبهج أحباله الصوتية، وربما يجهدها أيضاً.
 
غنى في الإذاعة المحلية بالإسكندرية منذ افتتاحها عام 1954، وقدّم أغانٍ كثيرة للإذاعة، ضاع معظمها للأسف، ولم يتبَقَ لنا إلا القليل، تعاون مع أغلب شعراء الأغنية المغمورين مثله في مدينة الرب.
 

عزت يُصلّح تليفونات ويغني ويلحن أيضاً؛ لحن عزت عدة أغانٍ لنفسه، ربما كان أشهرها وأحلاهم أغنية «يا زايد في الحلاوة»، وهي من كلمات أحمد ملوخية، غناها بعد ذلك محمد فايد واشتهرت بصوته، وغناها أيضاً أحمد عدوية.
 
الشهرة والنجاح ليس لهما قواعد، ربما الحظ له دور كبير في ذلك، فعندما لحن وغنى عوض أغنية يا زايد في الحلاوة، لم تلاقي النجاح الذي لاقته عندما غناها محمد فايد، ومن بعده عدوية، ومن بعدهما دنيا مسعود، ربما سهولة الكلام وعذوبة اللحن كانا سبباً في نسب الأغنية إلى التراث، وكأنه كتب على عوض أن تصبح أغانيه تراثية وهو لايزال على قيد الحياة.

صنع عوض لحناً من أجواء السهل الممتنع، تشعر كأن عزت لحن اللحن شفهياً، فاللحن مرسوم على صوته، وكلمات الأغنية أقرب لمغازلة شاب لفتاة على الكورنيش مع غروب الشمس.
 
صوت عوض مريح للقلب، يملك حنجرة ذات أصول شعبية، قريب من حنجرة محمد قنديل، ولتأكيد حلاوة الصوت واللحن في أغنية يا زايد في الحلاوة، نستمع أيضاً لأغنية رق حبه، من كلمات إبراهيم بدر الدين، وغناء ولحن عوض، ويكفي فقط دخلة عوض في بداية الأغنية بعد الكورس، وحلاوة وعذوبة صوته، يصعد ويهبط بصوته بكل سهولة وجمال.

ولكن الحظ لم يكن قريباً من عوض، بعض المحاولات للنزوح إلى القاهرة والغناء فيها، كلها باءت بالفشل، أو بموت من كان سيقدّم له فرصة الشهرة والغناء في القاهرة، كموت الكاتب جليل البنداري، بعدما سمعه في إذاعة إسكندرية، وطلب منه الحضور إلى القاهرة، لم ينل من القاهرة إلا أغنية واحدة، «كبرنا ع الحاجات دي» من كلمات عبد الرحمن الأبنودي ولحن فتحي حجازي.

غنى عزت للإسكندرية أغاني كثيرة؛ منها «الحلو ساكن في باليون» من كلمات السيد اسماعيل وألحان محمد الحماقي، والخصوصية في الغزل، عندما غنى «باين عليه إسكندراني من لهجته»، ويستمر عزت في الخصوصية، في أغنية «يا بنات إسكندرية»، وكأنه كره للمدينة العاصمة، قبل أن يكون حباً لمدينة الرب، يصرخ عزت وهو يغني، أن صوته سيبقى لإسكندرية ولأهلها، مكتفياً بالغناء في الأفراح والمناسبات وجلسات السمر مع أصدقائه ليلاً.

عوض أنهكه اليأس وقلة الحظ، اقتنع أن ذلك هو المصير، سقط في المحلية، رضا بالقدر، وسلم صوته لأصحابه في جلسات السمر الليلية.. غنى عوض أغاني كثيرة في الإذاعة المحلية، رغم خلافه الدائم مع مدير الإذاعة حافظ عبد الوهاب، وغنى مع العظيمة بدرية السيد، ولكنه لم ينل شهرة بدرية السيد.

جاء نجيب محفوظ عام 1967، وذكر عوض في روايته ميرامار، وبالتحديد كانت أغنية «يا زايد في الحلاوة عن أهل حينا»، وذكره أسامة أنور عكاشة في مسلسل «أبو العلا البشري»، في حوار بين «محمود مرسي» و«علي الحجار».

رافق عوض الشراب، وقيل إنه كان يشرب خمراً غاية السوء، ربما تأثر صوته تدريجياً، من أثر الخمر والحزن، وفي يوم 17 أغسطس عام 1975، يجد المارة، وبالتحديد في أول شارع جميل ثابت من ناحية شارع إيزيس بجوار الكنيسة الحمراء، جثة لشاب ملقاة على الرصيف، قتل عزت عوض الله، وقيّدت الجريمة ضد مجهول، وكأن الحياة أقسمت أن لا فرحة في حياة عامل التليفونات البسيط، صاحب الصوت الزايد في الحلاوة.

 

نشر في موقع كسرة عام 2015