ما زلنا في رحاب ديوان “ريان يا فجل”، ومع المقال الرابع في هذه السلسة، نسبح مع فؤاد حداد في السهل الجميل، والقصائد الغنائية، والجمال الفطري، البسيط لدرجة أنه يحمسك لتكتب مثله ولكن بالطبع لن تصل إلى هذا الحد من الجمال.

كثيرون غنوا من كلمات فؤاد حداد: بداية من محمد قنديل، والخال أحمد منيب، والشيخ إمام، ومحمد منير، وأحمد وعلي الحجار، ووجيه عزيز، وسيمون، ومحمود الجندي، وغيرهم الكثير، وبالطبع على رأسهم الشيخ سيد مكاوي.

منذ بدأت الوقوع في حب فؤاد حداد، وأنا مقتنع إنك إذا فتحت أي ديوان من دواوينه واخترت صفحة عشوائيًا، فيمكنك أن تلحن ما تجده فيها وتصبح أغنية عظيمة، وإذا اعتبرت فيما سبق مبالغة تملؤها العاطفة تجاه شعر حداد، فيمكن بقليل من البحث أن تجد قصائد كثيرة لحداد تصلح لأن تلحن وتغنى، وقليل من يفعل ذلك، مع حداد خاصة، ومع الجميع عامة.

كما ذكرنا في المقالات السابقة، لا يخلو ديوان لحداد من قصيدة نثرية وقصيدة مغناة، وقصيدة اليوم “مين قال” هي قصيدة قصيرة وبسيطة، لكنها كأغلب قصائد فؤاد حداد، مكثفة بالجمال والغزل في جمال الأنثى، وأيضًا في حب الأنثى للرجل.

القصيدة مكتوبة في شكل مقاطع قصيرة، سبعة مقاطع لعب فيهم  فؤاد حداد على فكرة التراث الشعبي، وخاصة تراث أهل الدلتا والريف المصري وأغاني الأفراح البسيطة والمليئة بالغزل العفيف والصريح والجريء في أغلب الأحيان.

المقطع الأول للقصيدة غزل مكثف وبالغ الرقة والعذوبة في جمال الأنثى، مقطع يمكنه أن يصبح مشهدًا سينمائيًا، أو لوحة فنية، يخلق ابتسامة على وجه من يقرأه، ورعشة في الجسد والقلب للأنثى التي يكتب/ يقرأ لها، يلعب فيه حداد باللغة كعادته المفضلة.

“القمر يشوف ودنها يعمل حلق.. يشوف حلقها يعمل ودان”

فتاة جميلة ترتدي القمر حلقًا في أذنها، وأيضًا أذنها قمر، يمكنك أن ترى الأذن مثل القمر في وضع الهلال، يكتفي فؤاد حداد بوصف الحلق والأذن، ليشتعل خيالك بالباقي من الجمال، يلعب على التفاصيل الصغيرة بكل بهجة وجمال.

لم يقف عند ذلك، من التفاصيل الصغيرة للتفاصيل الكبيرة، للصورة الكاملة، يعرفك حداد أن الفتاة ترتدي فستانًا، وهي التفصيلة الصغيرة التي يمكن أن يكتب عنها موضوعات كاملة في وقتنا هذا،  الوقت الذي أصبح فيه ارتداء الأنثى فستانًا والخروج به هو إحدى المهمات البطولية وسط كل ما يحدث في شوارع وطننا الجميل الحبيب.

يتركك حداد كعادته أيضًا مع سؤال وجودي مبهج، وأنت ترى في خيالك فتاة ترتدي القمر كحلق وأذنها على شكل هلال، وترتدي فستان يطير في الهواء.

“مين اللي بيحس بالقلق.. المروحة ولّا الفستان”

حقًا، اعترف أنني أخترت القصيدة بسبب هذا المقطع فقط، من قبل حتى قراءة باقي القصيدة، يمكننا أن نكتفي بهذا المقطع، هو بالقصيدة كلها، وبألف قصيدة عامية مما تعدون، وهو تأكيد على جمال باقي القصيدة.

ينتقل فؤاد حداد سريًعا للأنثى، ويتكلم على لسانها في المقاطع المتبقية من القصيدة، ويستمر الغزل الجميل والعفيف، وتظهر جملة “مجنونة.. مين قال؟” وهي قفلة كل المقاطع القادمة، سؤال يحمل كم هائل من الدلع والبهجة والحركة والارتياح.. يليق بما قيل عن جمالها في المقطع الأول.

يتضح في القصيدة بشكل قوي لعب حداد على تراث أغاني الدلتا والريف المصري، من خلال كلمات مثل “العوازل، خبروني، صبايا”، ولا ينسى حداد اللعب مع اللغة والخيال، فتجده يتسأل على لسان الفتاة.. “كنت شفته في المراية ولا في الخيال؟”.

في نهاية الغزل والاعتراف بالحب وانتظار الحبيب على لسان الفتاة، ينهي حداد القصيدة على لسانها أيضًا، وكما بدأ بالغزل فيها عن طريق القمر، ينهي القصيدة بالقمر أيضًا، ولكن هل الشمس الغائبة هي الشمس الحقيقية، أم تشبه الفتاة حبيبها بالشمس، وهل القمر القريب هو الحلق الذي ترتديه أم أذنها التي على شكل هلال، أم هو الحبيب ذاته؟

استخدم فؤاد حداد لفظ “حسي” في آخر سطور القصيدة، وهو يؤكد على أن حبيبها أن يتذكر جملة “مجنونة.. مين قال”، واللفظ هنا يزيد من الحميمة والقرب والحب، والغواية الجميلة بكل دلال ورقة وعذوبة، دون أن تفقد الفتاة مكانها على العرش كملكة تتنظر العاشق مقدمًا قلبه كقربان محبة، أو هاربًا منها ليبقى حسها يطارده في كل مكان وكل زمان.

كل ذلك في قصيدة صغيرة بسيطة، كنت أتمنى أن تغنى، وأن ننهي المقال بالأغنية نفسها لا بالكلام فقط، ولكن حداد يصنع المشهد كاملًا متكاملًا ويجبر خيالك على التفكير وقلبك على البهجة ووجهك على الابتسام، يفعل كل ذلك بكل هدوء.. ويتركك مع القصيدة ما بين السطور ويرحل في هدوء.

***

“مين قال”

القمر يشوف ودنها يعمل حلق

يشوف حلقها يعمل ودان

مين اللي بيحس بالقلق

المروحة ولّا الفستان؟

مجنونه.. مين قال؟

باتكلم.. مين قال؟

باتحرك.. مين قال؟

أنا عاقلة أنا قاعدة

بس سايبة من النهارده

قلبي عند ابن الحلال

مجنونة.. مين قال؟..

والعجيبة الناس يجوني

والعوازل يسألوني

اللي بينور عيوني

هي دي عايزة سؤال

مجنونة مين قال؟

واللي ساب قلبه معايا

خبروني يا صبايا

كنت شفته في المراية

ولا شفته في الخيال

مجنونة.. مين قال؟

كل شوق الدنيا عندي

حط إيدي على خدي

راح يجيب ولّا يودي

الفراق ولّا الوصال

مجنونة.. مين قال؟..

والعرايس رايحة جاية

تسأل الدنيا عليّا

والغريب شاف في عينيه

بنت عم وبنت خال

مجنونة.. مين قال؟..

كل يوم شمسه تغيب

والقمر ساكن قريب

كل مولد وأنت طيب

وافتكر حسي اللي قال

مجنونة.. مين قال؟

نشر في مدى مصر عام 2015