شريف حسن

“ريان يا فجل”، أحد الجمل الشهيرة لبائع الفجل، وريان هنا بمعنى أخضر ناعم، وهي جملة مصرية مئة في المئة، والمثل الشهير يقول: “إن شالله يقول ريان يا فجل”، والمعنى المقصود أن الشخص قائل المثل لا يصدق ما يقوله الأخر حتى لو قال” ريان يا فجل”.

استخدام فؤاد حداد لجملة مثل هذه عنوانًا لأحد دواوينه يوضح أين يقف الرجل من الثقافة الشعبية في مصر، وهي الجملة التي استخدمها قبله الأديب والمسرحي محمد تيمور اسمًا لقصة قصيرة كتبها عام 1918.

يحتوي الديوان، الذي كتب عام 1984، على قصائد عديدة، متباينة الطول، مختلفة في الشكل وطريقة الكتابة، وفيها يقترب حداد أحيانًا من الغنائية، ويهرب في أوقات أخرى إلى لغة النثر، ومرات يقف بين الاثنين بكل خفة وتمكن،

يغلب على الديوان فكرة “الشجن”، ويبدأه حداد بجملة «مائة شجن وشجن في الرد على سؤال واحد وكتير مهذب ومثير  ــ لا أقول ولكن يقال: إنك عزوف خجول»، وتبدأ قصائد كثيرة في الديوان بكلمة شجن، مثل قصيدة اليوم “بابا غنوج”.

يجوب حداد في ديوانه داخل العلاقات الإنسانية، بين الفروق البسيطة في المشاعر، رغم بساطتها، والتبابين فيما يشعر الإنسان وما يعبر عنه، ما بين الحب والهروب منه، والوقوف في المنتصف، وتخبط المشاعر، والتيه في صحراء الروح، والتوحد مع الوهم، كوسيلة دفاعية ضد الزمن والحياة.

وعبر قصائد الديوان يجمع حداد بين القطبين، الفصحى والعامية، بين المتنبي وبيرم التونسي، فيتحدث عن المتنبي، ويستخدم أسلوب بيرم. يبدأ حداد في المقطع الأول من قصيدة “حياتي” مع أحد أهم شعراء التاريخ: المتنبي، يمدحه ويسأل كعادته أسئلة بسيطة ومخيفة في الوقت نفسه: المظلومين أكتر من المُتظلمين ولّا أقل؟!

في قصيدته، التي بناها على فكرة «الأوله آه والتانية آه والتالتة آه» والتي أبدع في كتابتها بشكل مبتكر، يتضح لنا بشكل ما من هو فؤاد حداد: من جمع فصحى المتنبي، وزجل وعامية بيرم، ليقدم لنا شعر العامية في شكل جديد ومختلف، يمشي على نهجه كل ما أرادوا كتابة شعر العامية.

ثلاثي من أهم الشعراء تأثيرًا في تاريخ الشعر عامة، المتنبي أحد آباء شعر الفصحى، وبيرم بمثابة الأب الشرعي لشعر العامية والزجل، وحداد في دور الراوي والمجدد والمطور لفكرة شعر العامية ككل، ودخوله لمنافسة قصائد الفصحى بالعامية، وما بين الثلاثي من تقارب في علاقتهم بالوطن الأصلي لهم، والغربة والسفر: الثلاثة دخلوا السجن، وكان له آثر كبير في حياتهم وعلى شعرهم، وانطلاقهم للكتابة بشكل جديد، ربما كان هناك وجه تشابه بين الثلاثة، أراد حداد تأكيده في ذلك النص.

دائمًا يبقى الأكثر متعة من الفعل الإبداعي نفسه، هو التحدث عن هذا الإبداع، النقاش والجدال، تارة مع الواقع والتاريخ، وتارة مع الخيال المريض، فالحديث عن الشعر وجماليات القصيدة والجمل القصيرة والصورة المختزلة، أجمل ما في فكرة الشعر، وغالبًا ما يعد عدم الوصول للمعنى المقصود من الشاعر، هو تأكيد على نجاح القصيدة، نجاح على استمرار الحديث والبحث والتأمل والوقوع في فخ جماليات اللغة وما بين السطور، مثل «الأوله يا فلاسفة بتحبه وتقوله له أسفة» و«ما آخرته بالتفاهم أوله باي باي».

ووسط كل هذا، وببساطة مدهشة يستمر حداد في ألاعيبه ودروسه، مثلما كثّف كم الحزن والوجع في هذه الجملة: «ياللي حبيبك ما جاش اعمل كأنه جا». بهذه البساطة يقدم حداد حلًا لمشكلة من أهم مشاكل الحياة، ويكمل كلامه «كل الدموع بالبصل والضحك بالنوجة» لتهرب من البصل الموجود في حياتك، وتحاول العثور على النوجة.

***

بابا غنوج

الشجن كل النبات متربي

وكل حكمة في ذمة المتنبي

هو اللي قال لك تخبي وهو ما خباش

اتلقى كل السهام شاطر ما خيبهاش

كل السهام أفقي ورأسي

مقدمة لموال عكسي

سألت نفسك عن نفسي

المظلومين أكتر من المُتظلمين

والا أقل

الأوله قام يقسم ولا نام على الناي

والتانيه افتح يا سمسم تنفتح عيناي

بتحضروا لنا الغدا على الشمس والا الشاي

الأوله يا فلاسفة

بتحبه وتقوله له أسفه

هواك سفيه ولا أسفه منه إلا هواي

الحب مش أنا وأنت والاّ أنت وأنا

كفاية لو غيري غيرك أو سواك سواي

يقول لك اللي سقاهم لما ضهره انحنى

هما اللي كانوا سواهم

وشق واحد تواهم

ما آخرته بالتفاهم أوله باي باي

ما تفهمي يا فهمية

يا مستويه وفجة

الفهلوة المستقيمة

بتغلب المعوجة من الألف للياي

الأولة قبل ما أكدب

التانية راح تستعجب

التالتة تابتة بتقلب ما اخابرش إزاي

طليت من العصفورية لحد قايت باي

وأنا بابا غنوج باغني لماما غنوجة

يا للي حبيبك ما جاش اعمل كأنه جا

كل الدموع بالبصل والضحك بالنوجة

عين الولد طالعة نازلة وبُقه رايح جاي.

نشر في موقع مدى مصر عام 2015