شريف حسن

متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها، أنا منحاز لمن هم “تحت”.

في ذكرى اغتيال الرسام الفلسطيني ناجي العلي، في لندن على يد مجهول، وتفرق دمه بين كل الجهات، لا يهمنا من قتل ناجي العلي، لأن أغلب الأطراف والجهات الرسمية والغير رسمية كانت تتمنى موت ناجي العلي، وهنا يكون السؤال الأوقع لماذا كان يجب قتل ناجي العلي؟!

غسان كنفاني

يحكي ناجي العلي ويقول: صادفني مرة الشهيد غسان كنفاني في إحدى سهرات المخيم ورأى بعض إنتاجي فدهش له وأخذ منه بعض النماذج، بعد فترة قصيرة فوجئت بنشرها، هذا الأمر شكل عندي حافزاً للمواظبة على تنمية هذه الموهبة.

غسان هو مكتشف ومقدم ناجي العلي من داخل مخيم “عين الحلوة” في لبنان، الذي عاش فيه ناجي العلي بعد أن هجر من قرية الشجرة شمال فلسطين آثر حرب 19488.

كان يرسم ناجي بالفحم على جداران المخيم أو في السجون اللبنانية، ورد الجميل لغسان بعد سنين طويلة، وحتى بعد اغتيال غسان نفسه وموته في لبنان 1972، اغتيل ناجي في نفس الشهر بعد 15 عام، حضر ناجي جنازة غسان في الصفوف الأولى، وكأنه كان يقول أنا قادم إليك لا محالة، ونتذكر مقولة ناجي “اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت”.

ولأن تكملة الدراسة كانت تحتاج للمال سافر ناجي من بيروت إلى الكويت عام 1963، وعمل في مجلة “الطليعة” والتي كانت تمثل التيار القومي العربي هناك كما قال ناجي، وعن هذه التجربة يحكي ناجي “كنت أقوم أحيانًا بدور المحرر والمخرج الفني والرسام والمصمم في آن واحد، وبدأت بنشر لوحة واحدة ثم لوحتين هكذا وكانت الاستجابة طيبة”.

وفي 5 يونيو 1967 ولد حنظلة في مدينة الكويت، ويحكي ناجي عنه ويقول: “ولد حنظلة في العاشرة في عمره وسيظل دائما في العاشرة من عمره، ففي تلك السن غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إلى فلسطين سيكون بعد في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء، كما هو فقدان الوطن استثناء. وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي العلي: كتفته بعد حرب أكتوبر 1973م لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع”.

محمود درويش

ناجي العلي مثل الرادار يرصد الخطأ

عندما تقف ثورة الماء أمام جنون النار، بعيدا عما قيل ونشر عن خلافات وعن تهديدات درويش لناجي ومكالمة الهاتف الأخيرة بينهم، فلا يهم كل ذلك فكلاهما في القبر الآن، ولكن نحن الخاسرين، خاسرين مشروع إبداعي كبير بين اثنين من أهم المبدعين في تاريخ فلسطين يقول درويش: “ورأيته، للمرة الأخيرة في باريس، قلت له مازحا: أما زلت تنجو لأن الغرباء يظنون إنك شيخ طاعن في السن؟ كان يشكو من رئيس التحرير السابق: عدت إلى المقهى لأضربه فلم أجده، قلت له: اهدأ، فقد آن لك أن تجد التوازن بين يدك الذهبية ومزاجك العاصف، وكان يهدأ رويدا رويدا·· خطرت له خاطرة: تعال نعمل معا، أنت تكتب·· وأنا ارسم.

ولكن ضاعت الخاطرة مع الخلاف ومع جملة “درويش خيبتنا الأخيرة” وقال درويش حين استشهد ناجي: “سقطت من قلبي أوراق الأغاني لتسكنه العتمة، الاختناق في الحواس كلها، لا لأن صديقا آخر، صديقا مبدعا، يمضي بلا وداع فقط، بل لأن حياتنا صارت مفتوحة للاستباحة المطلقة، ولأن في وسع الأعداء أن يديروا حوار الخلاف، بيننا إلى الحدود التي يريدونها ليعطوا للقتيل صورة القاتل التي يرسمونها وليتحول القتلة إلى مشاهدين”·

ياسر عرفات

أبو عمار أو “الختيار”، كما كان يدعى من قبل أنصاره، كان بنيه وبين ناجي خلافات شديدة، حيث قال أبو عمار مرة في زيارة للكويت “قولوا له أن لم يتوقف عن رسومه لأضع أصابعه في الأسيد”.. وفي حديث دار بينهم سأله أبو عمار باللهجة المصرية، ” أنت ليه بتشتم شعبك يا ناجي؟”، فكان رد ناجي إنه لم يشتم شعبه بل أنت من تشتم شعبك سائلًا عرفات: “أنت ليه تتكلم اللهجة المصرية لماذا لا تتكلم اللهجة الفلسطيني؟!” 

وأكدت زوجة ناجي ورفيقته، أن ناجي كان لا يسمع لأحد يملي عليه أي أوامر أو طلبات في الرسم. ثم كانت رسمة ناجي عن رشيدة مهران، الصحفية المصرية، وصديقة الختيار وكاتبة كتاب “عرفات إلهي”، ونشرت جريدة الأوبزيرفر اللندنية الشهيرة (The Observer) الكاريكاتير تحت عنوان “النكتة التي كلفت الرسام حياته” وذلك بعد اغتياله في لندن.

مريد البرغوثي

هو اللي واقف مش إحنا“..

هكذا قال مريد بعد أن صرخ وقال لا وهو يقف أمام قبر صديقه ناجي، وطلبت وداد، زوجة ناجي، من مريد الهدوء والثبات لكي يظلا واقفين على أرجلهم، ومكث مريد في غرفة ناجي بناء على رغبة زوجة ناجي، مكث أسبوع بين لوح ناجي وكتبه وأقلامه، وكتب قصيدة رثاء “أكله الذئب” وهو اسم لوحة من لوحات ناجي، كتب مريد القصيدة في غرفة ناجي وبقلمه وألقاها في افتتاح معرض لرسومات ناجي في لندن، ويحكي مريد في كتابه “رأيتُ رام الله”، ‘عن مشهد لن ينساه أبداً، حين كان يقف على باب المعرض ثلاثة شبان هم: “خالد” ابن الشهيد ناجي العلي، “فايز” ابن الشهيد غسان كنفاني، “هاني” ابن الشهيد وديع حداد.

وقفنا على قبره خاشعين

وما زال ينزف حزناً علينا

وينزف حزناً على شكل أيامنا القادماتِ

ويرمي على قاتليهِ التهكم والذعرَ حياً وميتاً

ويحبسهم في براويزه الهازئاتِ

ويمضي إلى موته صامتاً عارفا

وقفنا على قبره مائلينَ

وفي قبرهِ كان ناجي العلي واقفا

وعلى ذكر الرثاء، لعبد الرحمن الأبنودي قصيدةُ رثاء لناجي في ديوان “الموت على الأسفلت”، وكان الديوان إهداء لناجى العلى، الفنان الشهيد ولشهداء فلسطين في الماضي وفى المستقبل في الذكرى الأولى للانتفاضة.

ما عرفشي يكذب ولا يطلع قليل الأصل

الناس بترسم بريشة وهوه ريشته نصل

فضح رموز الرواية وهيّه عَ المسرح

قتلته بأيدي وإيد غيري في آ خر الفصل

اصحى يا ناجي العلي.. أهي

صحيت الضفة

يقشعروا الأرض .. اصحى جاوب الهزة

سنّ القلم من جديد وارسم بنات غزة

غزة اللي حضنت سلوكها وعشقت الحزة

ما ماتتش .. طب ما أنت مت ….

عرفت تتوفى..

وكتب أيضا الشاعر، الراحل منذ أيام، وصديقه أحمد مطر قصيدة “أصعب الكلام”

أرثي بفاتحة الرثاء رثائي

عفواً، فإني مَيِّتٌ يا أيُّها

الموتى، وناجي آخر الأحياء!

ناجي العليُّ” لقد نجوتَ بقدرةٍ

من عارنا، وعلَوتَ للعلياءِ

اصعد، فموطنك السّماءُ، وخلِّنا

في الأرضِ، إن الأرضَ للجبناءِ

وفي النهاية اغتيل ناجي في مثل هذا اليوم ومات بعدها بعدة أسابيع في 29 أغسطس، ودفن في لندن، وحرم من وصيته أن يدفن في مخيم “عين الحلوة”. وكما حرموا جثمانه من تراب عين الحلوة، حرموا تمثاله الذي صنعه له النحات “شربل فارس” ووضعه على مدخل المخيم، لكن أطلق مجهولون النار عليه تحت عينه اليسرى، ثم أُنزل وسُحل. فأعاده أصدقاء ناجي إلى مكانه، فما لبث أن اختفى نهائياً بعد ذلك.

وفي الذكرى الــ 27 لاغتيال ناجي مازلت فلسطين تقاوم ومازلت غزة محاصرة وينزح شعبها، ومازالت رسوماته صالحة للعرض كتعبير عما يحدث الآن لا عن ذكريات، فالسلام عليك يا ناجي وعلى روحك وقلمك والسلام للطفل حنظلة الساكن فيك.

نشر في موقع أتفرج عام 2014