شريف حسن

مرة قرر الفراعنة القدماء تغير سنتهم القمرية القديمة من 365 يومًا إلى 360 يومًا فقط. ولم تفهم العامة كيف طارت خمسة أيام من السنة، فقالت بأن الآلهة القمرية، إيزيس، خسرتها في لعبة دومينو مع أحد الآلهة العظام. وكل من يولد في هذه الأيام الخمسة يولد “خارج الزمن”، وإلى حد ما هذا يعني الولادة في “الزمن الضائع”، أو الزائد عن الحاجة، وهذا يعني أيضًا الولادة في زمن أكثر قدمًا، وأصالة، ولكن الذاكرة نسيته أو تتناساه، وهذا يعني ثانيًا الولادة خارج الزمن المستدير، الدائري تمامًا، المتفق علية من قبل الكل.

هكذا تحدث حسين البرغوثي في سيرته الذاتية “سأكون بين اللوز”، عن الولادة خارج الزمن عن فكرة الزمن الضائع، لم يقعد مقاعد السمع، ولم يوشوش ودع النوريه لتقرأ له البخت مقابل قرشًا ونصف، ولكنه كان تأكيدًا من الزمن على أن حسين لم ينتم إليه، سابحًا في الفضاء خارج أطر الدائرة، تواضع وترفع وتنازل عن فكرة الكمال وكأنه زائد عن الحاجة أو كأنها زائدة عن حاجته.

13 عام من الرحيل؛ يقرأ عن الموت ويبحث عن سره المدفون، خمس أيام هي الفاصلة بين ذكرى الموت وذكرى الميلاد، رحل حسين يوم عيد العمال؛ كأنه عامل أنهى مهمته، أو لم يكملها، ولكنه أرد الراحة والهدوء، أراد السكن بين اللوز، ورأى أن 48 عام كانت كافية لسقوط المطر وانبعاث الزهور.

كان حسين هو المسافة بين الوردةِ والفيضـــان، بين الفوضى والتحنيط، حوار الهندسة مع الماء، وجهًا نصفه الأول من رخامٍ والآخرُ من نارٍ ورقصٍ جنونيّْ، وكان العتمَ الكامنَ في روحِهِ يحاولُ ذبحَ النارِ بلونه، كان الصراع دائمًا داخله، فالعالم كامن في جسده وروحه، هو المتوحد مع الذات والمباح وقتما تصيبه لعنة الأبجدية، شعره الكثيف النوري، عقله يتسع لسبع بحور وجنان، ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بشر، وقلبه الهائم يطارد القمر على الحدود كنبي مطرود ينده في البراري معلنًا قدوم غزلان المحبة والسلام.

“إن الموهبة تقترض أما العبقرية تنهب”، هكذا قال الشاعر والمسرحي الإنجليزي إليوت، وهكذا يفعل حسين، فالحروف طين في يده، يخلق ما يشاء، لا يهاب التجربة بل يغوص في بحورها متتبعًا ظله متخفيًا في روحه حاملًا ثقل الزمن المتعب من اللاحق به، ويؤمن إن التجربة هي الطريق الوحيدة للمعرفة.

إذا كان لافظ بن لا حظ كبير الجن وقرين أمرؤ القيس يسكن وادي عبقر، فجن حسين جالس في دير الجواني في مسقط رأسه في قرية كوبر التابعة لرام الله، في محراب حسين الشعر كبصمة الأيد لا تتكرر، كل ديوان هو بصمة غريبة عما قبله، يكتب حسين القصيدة ثم يمحوها ويترك ما بين السطور، يكتب ما سوف يمليه عليه انحناء البناء فمن لغة إلى لغة، يكتب بحثًا عن القواعد لا بناءً على قواعد.

تقول الأسطورة إن في فلسطين بئر من شرب منه سقط فيه إلى خارج الزمن، ليستقبله الجن بالماء والثلج والبرد، وتعلمه الأسماء كلها، ويصاب بدودة الكتب “ Bibliophilia“، الشغف بالثقافة والقراءة في شتى المجالات، موسوعة متحركة، وأنت تقرأ حسين أعلم أمرين لا مفر منهم، متعة الجمال في اللغة والقصد والرؤية، والركض وراء التناص والاقتباسات، حسين واحد ممن شربوا من البئر، وقد سبقه زميله في الأدب المقارن والسرطان أيضًا “إدوارد سعيد”.

“إن ملت إلى تتبّع النّهر، مع الموج رحتَ.

وإن ملت إلى جهة الأهرامات، كنت مع الثبات.

قدر الرّوح ما تميل إليه.

إن ملت للعتم في النار، كنت مع اللون.

وإن ملت مع النّار، كنت مع الحركة.

إن ملت إلى رقصات الغجريات، كنت مع الشكل.

وإن ملت إلى ميزان الذهب، كنت مع الدقة.

إن ملت إلى ما كُنْتَ، كُنْتَ مع الذاكرة.

وإن ملت إلى ما ستكون، كنت مع المنفى.

وإن كنت سفينة الشفق البحري، كنت مع الحرية فالبحر مغادرة دائمة المغامرة.

أن تتأمل نفسك يعني أن تفهم ما كنت تعرفه دائما من غير أن تفهمه، إن الحياة لعبة شطرنج، ذهنك فيها الرقعة، والحجارة، واللاعبون، واللعبة، والقاعدة، ولا توجد رؤيا بغير معرفة التفاصيل، كن شلالا وكن سمكة، هكذا نصح “بري” صديقه حسين في “الضوء الأزرق”، كان حسين يلامس الجنون دون أن يوقظه، يعلم سر القلوب وإنها تجف ويصبها الإعاقة والتخلف كما العقل، كان يتمايل مع كل حركة للزمن فلا تستطيع تتبعه أو حصره في مكان واحد فهو كالماء إن أرغمته على الثبات تجمع وأصبح صخرة من ثلج، وإن حبسته هرب وتسلق الهواء حتى يصل السماء ويثور عليك سهولا.

هل الجماليُّ في الشعر يحدُّ من الرؤية؟ سأل حسين صديقة الشاعر محمود درويش وطلب درويش أيامًا ليفكر في جواب، ولكن مات حسين قبل أن يجبه درويش، كان يرى درويش إن شعر حسين كان بعيدًا عن الذائقة الجمالية العامة لما يحمل من معرفة زائدة وتنظير، ولكنه كان يعي قيمة حسين فقال متحدثا عن “الضوء الأزرق”: “لعلّه أجمل انجازات النثر في الأدب الفلسطيني”.

لعلم الهندسة والرياضيات حيز في خزائن عقله فيكتب عن هندسة القصيدة ويربط بين علم الرياضيات ومعلقة أمرؤ القيس، يترك خياله متكأ على التاريخ حاملا الأساطير على هودج ليرحل بحثا عن معنى جديد، ورؤية تطفو على السطح فتثير العقل وتحرك القلب جهة الشمس لحظة السقوط في البحر، يعمل على مقولة الفيلسوف الألماني نيتشه “إن العقل يجب أن يكون بمثابة أحشاء القلب”.

يصارع الموت بالموت، ينجوا من مرض بمرض آخر، يصارحه الطبيب إنه يترنح بين الإيدز والسرطان، ولا يملك رفاهية الاختيار، أسبوعا مر علية كنص رامبو “فصل من الجحيم”، يفكر في آثر، ابنه من الجميلة بترا، بترا الزوجة والحبيبة، هل سيفشل الطب؟، هل زيارة أضرحة الأولياء ستغير الوضع؟، يذهب حسين الأولياء ولكنه على طريقته، ليصرخ ويقول بكل هدوء المريض: “فعيناها مقامان للأولياء مقامٌ يزارُ وفاءً للنذورِ ويُشعلُ فيهِ السراج بزيت الطقوسِ وآخر يطفو على الماء في حلمه ويُضيء له الأشياء”.

يفكر إن الإيدز يقتله ويقتل من معه في رحلة الدير الجواني، بترا من قالت له لا يهم إني مصابة المهم إننا سنموت معًا، ولكن آثر سيموت هو الأخر، كيف يخرجهم من المعركة، فمرضه بينه وبين الله، والانتحار جبن ولا وقت للهرب، فالسرطان هو الحل.

يلمح بالإنجليزية كلمة “نيجاتيف” في نتيجة التحليل أي ليس مصابا بالإيدز، يرقص ويتمايل وهو يغني كلمات ابنه آثر “أوه أوه أوه حسين شوف!”، ثم يكتشف الطامة الكبرى، لقد مرض الجبل بالسرطان، سيلعب مع القدر وحده لا شريك له، ولكن نجت بترا ونجا آثر، تداخلت المشاعر وتضارب الحزن والفرح، سيقط الشعر وتتلعثم الحروف في الفم ويثقل النفس حتى ينطفئ نور القلب وينام العقل ليرتاح، ويبقى ما كتب وما نسج من إبداعات وتبقى بترا ويكبر آثر وهو يركض في الدير الجواني بحثًا عن قرين والده من الجن.

صدر لحسين ما يزيد عن ستة عشر عملًا أدبيا مختلفا بين الشعر والرواية والسيرة والنقد والتراث والفلكلور إضافة إلى العديد من الدراسات الفكرية والنقدية، ووضع حسين سيناريوهات لأربعة أفلام سينمائية وكتب نحو سبعة مسرحيات لفرق محلية وعالمية إضافة إلى كتابة العديد من الأغاني لفرق موسيقية مختلفة.

يا حسين قد اتممت الستين عامًا، فكل سنة وأنت ساكن بين اللوز ومضيئا بالضوء الأزرق، كل سنة وأنت القادم من زمن وثني لتحل شفرة حجر الورد، وتبحث عن التفاصيل في الفراغ، وتتنزه على الضفة الثالثة لنهر الأردن باحثًا عن المتهم بسقوط الجدار السابع وتحل أزمة الشعر المحلي، لتبقى روحك في الأفق طاهرة نورية، يا حسين ننتظرك لحظتك، لحظة خروجك من داخل الأرض في الليل، كفًّا رخاميةً تحمل القمر الجديد قدح، يا حسين نعلم منك إن الجمال لن ينقذ العالم، ولكننا نحاول جاهدين وسط هذا الكم من القبح والدماء أن نمشي على دربك وننفذ وصيتك وننقذ ما تبقى من الجمال في العالم؛ الجمال الذي تم خيانته بالتجاهل، كجمال كتاباتك.

نشر في موقع التقرير عام 2015