إذاعة الشرق الأوسط منذ حوالي 44 عاما عبد الرحمن الأبنودي يُلقي على المستمعين لأول مرة أجزاء من ديوانه الجديد “جوابات حراجي القط” في برنامج “سهرة مع”تقديم الإعلامي والإذاعي حسن شمس الشهير بــ “عمو حسن”، والتي لاقت نجاحا لا مثيل له وكثر الطلب على إعادتها فكانت تعاد كل يوم في البرنامج لفترة طويلة.

في عام 2009 في مدينة كبريت في محافظة السويس مات بائع الفاكهة وعامل السد سابقًا وصديق الأبنودي في الطفولة “حراجي البسّ”.

تعود قصة الجوابات لعام 1966 عندما سُجن الأبنودي وتم مصادرة كل الأوراق من بيته وكان من بينهم ديوان “جوابات حراجي القط”، فقرر أن ينسى هذا الديوان وينسى حراجي كأنه لم يكن.

تجدد الشوق وضعف الشاعر أمام شعره وأمام فكرة كبيرة ومهمة ومكتظة بالدراما كفكرة بناء السد العالي، بعد النكسة وبالتحديد سنة 1969 وبعد رفض وزارة السد العالي السماح للأبنودي وصديقه سيد خميس والشاعر سيد حجاب بالسفر على حساب الوزارة كشعراء وأدباء، قرر الأبنودي السفر على حسابه الشخصي بعد ما جمع مبلغ من كتابة الأغاني.

في رحلة استغرقت أكثر من وسيلة مواصلات وصل الأبنودي إلى مكان السد وبالأخص مكان سكن العمال القادمين من بلده أبنود، ليلتقي هناك بالعمال وبصديق الطفولة “حراجي”، ليرى بعينه ما يحدث وما يعنيه العمال من مشقة وقلة الماء وعدم توافر أماكن للنوم.

يحدثنا الأبنودي إنه لم يذهب هناك للكتابة عن السد ولكن كي لا يجلس كالمثقفين على المقاهي والبلد كلها تنتظر هذا الحدث الضخم والمهم، اتفق مع الأبنودي في الجزء الأول من الجملة؛  فهو لم يذهب للكتابة عن السد، فالأغاني هي العمل الصالح لذلك أكثر من كتابة ديوان.

وللأبنودي باع طويل في كتابة الأغاني ويعتبر من أهم من كتبوا الأغنية المصرية باللغة العامية، وبالأخص أغاني المناسبات بداية من أول أغنية له “دودة القطن” ألحان حلمي أمين وغناء فاطمة علي، مرورا بأغاني الثورة مع عبد الحليم حافظ، وبيوت السويس مع محمد حمام، وحتى عندما انهزم كل الشعب في النكسة كان الأبنودي ينظم عدى النهار ليغنيها عبد الحليم حافظ من لحن بليغ حمدي في أول تجاربه الوطنية مع عبد الحليم.

نظم الأبنودي أغنيتين للسد؛ واحدة غناها صاحب الحنجرة الجميلة والقوية محمد قنديل ومن ألحان عبد العظيم عبد الحق وكان اسمها “اتمد يا عمري”، والثانية للرقيقة نجاة الصغيرة لحن بليغ حمدي تحت اسم “سد عالي”.

هكذا كانت الأغاني عن السد ولكن ديوان حراجي القط لم يكن له علاقة بالسد أو تخليدا لذكراه كما في الأغاني، يعلم الأبنودي علم اليقين الفرق بين الأغنية والقصيدة، بين ما يكتب ليغنى وما يكتب كقصيدة عامية، يرى بعض النقاد أن في الجوابات رسائل ترتقي لمرتبة السرية من الشيوعية وثورة العمال وحق العمال ويرى آخرون إنها قصة واقعية عن السفر والحب.

أرى الجوابات أكبر من الرسائل السرية والقصص الواقعية، هي قصيدة طويلة بُنيت على صراعات الإنسان ونفسه، أتوهم أحيانا في بعض مقاطع الصراع بين حراجي وزوجته أن الصراع يحدث داخل حراجي نفسه، صراعه بين حراجي المزارع وحراجي العامل في السد، استخدم الأبنودي الشكل المسرحي والملحمي، وجد الأبنودي نفسه أمام بحر من الأفكار، كأنه عرف المخبئ السري للوحي، فرصة لا تتكرر كثيرا في حياة الشاعر؛ أن يجد نقطة تغريه وتفقده عقله تسيطر عليه ويشب جنون المسرح فيه.

رأى الأبنودي في السد ما رآه أمل دنقل في معاهدة كامب ديفيد وكتب قصيدته الشهيرة “لا تصالح”، وما رآه محمود درويش في الموت والخلود والقضية الفلسطينية فكتب الجدارية وديوان حالة حصار.

فكانت الجوابات تنتمي للمسرح والتركيز على الصورةالمشهدية والاسترسال غير الممل وتضخيم الحدث كي يسع كل ما عندك من تناقضات دون السقوط في خطأ الافتعال أو المبالغة في التناقض؛ وهو سلاح ذو حدين، يجب الشاعر الحذر وهو يسير على صراط الفكرة كي لا يخل بإيقاع النص والفكرة.

يكتب الأبنودي من الواقع ولكنه يترك خياله متحركا في هذا الحيز، متحركا في أعماق الفكرة المحددة، لا تحرك هائم على وجه، هو خيال يعرف حدوده ومهامه أكثر من الواقع نفسه.

ستجد بطل ديوان أحمد سامعين هو ابن عم الأبنودي “محمد مصطفى”، وآمنه بطل قصيدته الأشهر “يامنة” هي عمته وكتبت القصيدة بعد موتها، وحراجي ما هو إلا صديق الطفولة في قرية أبنود، واستوحى الأبنودي من أخته فاطمة شخصية فاطنة زوجة حراجي.

ذكاء الأبنودي هو ما جعله يُقبل على تسجيل الجوابات بصوته ولهجته الرنانة والممتعة للأذن وساعدت جدا في اكتمال الصورة أمام المستمع، ورغم تباين وتعدد الشخصيات وتعدد مواقف الشخصية الواحدة، ألا أن الأبنودي لم يغير صوتهو لاحاول تقليد أقرب الأصوات للشخصية ولكنه نقل لك ما تحسه الشخصية أكثر من التدقيق في الصوت نفسه وهذا كان اكتمال لجو المسرح المسيطر على العمل.

ويظهر إبداع الأبنودي في دقة اختيار الألفاظ في الجوابات وعدم خروجها عن المناخ المحيط للشخصية وتاريخها ومرجعيتها الثقافية وموروثها الاجتماعي من أمثال وصور وتشبيهات، ورغم ذلك كان الأبنودي حريصا ألا يقع العمل في براثن الذاتية أو المحلية أو استمرار صلاحية العمل للأجيال القادمة، فكان الوصف كفيلا بكمال حالة التخيل لدى المستمع حتى لو كان عقلك لا يحتوي على مثل هذه الصور والمفردات.

وللكريشندو الدرامي دور مهم جدا في العمل، فالتصاعد المصنوع بدقة ميزان ذهب جعلك دائم الانتباه والتركيز من أول جواب حتى الجواب الأخير.

الجوابات كتبت على ثلاث مراحل متباعدة (1969 -1977– 1985) حتى وصلت الجوابات إلى 23  جوابا، وفي دراسة تحليلية بسيطة سنعيش مع الجوابات في عدة مقالات قادمة.

يتبع

نشر في موقع قل