شريف حسن

رحلة في نص رثاء محمود درويش “مَا مِن حوارٍ مَعك بعدَ الآن..”

ثمة علاقة طبية بين أمراض القلب والكبد؛ علاقة شائكة ومتشابكة، ربما كانت علاقة محمود درويش (المتوفي بمرض تضخم الشريان الأبهر) وسميح القاسم (المتوفي بسرطان الكبد)، هي نفس العلاقة الطبية بين القلب والكبد، علاقة متغيرة ثابتة، تنافر وتجاذب.

سنتان فقط هم الفارق بين مولد سميح ودرويش، لذلك يقول سميح عن درويش، هو توءمي لا أخي الأصغر، يرى سميح السنتان وكأنهما دقيقتان، يرى أن الأصدقاء والأخوات يختلفان ويتنافران، ويتشاجران، ربما وصلت لفترة من الانقطاع والهدنة، ولكن يبقى الحب والأخوية ثابتة متحجرة كالصخر يحمل الماء والعاطفة.

لأنّي قَدِمْتُ إلى الأرضِ قبلكَ،

صِرْتُ بما قَدَّرَ اللهُ. صِرْتُ

أنا أوَّلَ الأسئلة

إذنْ.. فَلْتَكُنْ خَاتَمَ الأسئلة”

انفجر سميح داخل الوطن، داخل القضية، عكس صديقه درويش الذي فضل الانفجار خارجها، سميح ودرويش الرفيقان الذي جمعهم الشعر والوطن، وأبعدهم أيضًا، ولكن لم يستطع أحد أن يفرقهم، فظل أصدقاء حتى فرقهم الموت، وربما جمعهم الموت أيضًا.

تَخلَّيتَ عن وِزرِ حُزني

ووزرِ حياتي

وحَمَّلتَني وزرَ مَوتِكَ،

أنتَ تركْتَ الحصانَ وَحيداً.. لماذا؟

وآثَرْتَ صَهوةَ مَوتِكَ أُفقاً،

وآثَرتَ حُزني مَلاذا

أجبني. أجبني.. لماذا؟”

هكذا كتب سميح قصيدة “مَا مِن حوارٍ مَعك بعدَ الآن..”، يرثي فيها صديقه وأخوه محمود درويش، “مَا مِن حوارٍ مَعك بعدَ الآن.. إنَّهُ مُجرَّدُ انفجارٍ آخر!”، ينفجر سميح في صديقه، سميح مهزوزًا ووحيدًا، فقد الأخ البعيد، درويش هو التميمة ضد الموت، وربما أيضًا كان سميح تميمة درويش ضد الموت، كلما اقترب أحداهما للموت، تمكن الخوف والحذر من الآخر.

وأعيادُ ميلادِنا طالما أنذَرَتْنا بسِرٍّ خَفِيّْ

وَمَوتٍ قريبٍ.. وَحُلمٍ قَصِيّْ

ويومَ احتَفَلْتَ بخمسينَ عاماً مِنَ العُمرِ،

عُمرِ الشَّريدِ الشَّقيّ البَقيّْ

ضَحِكنا مَعاً وَبَكَيْنا مَعاً حينَ غنَّى وصلّى

قطعتان من الحديد، رفقاء الصغر في المخزن والمصنع، وقريبان لا يبتعدان، وبعيدان لا يلمس بعضهم البعض كقضبان القطار، ترك محمود سميح وهاجر خارج حدود الوطن المكان، وظل سميح وحيدًا داخل المكان، هاجر درويش، ليحدثه سميح في القصيدة، “وهاجَرْتَ حُزناً. إلى باطلِ الحقِّ هاجَرْتَ، مِن باطلِ الباطِلِ ومِن بابلٍ بابلٍ إلى بابلٍ بابلِ ومِن تافِهٍ قاتلٍ إلى تافِهٍ جاهِلِ ومِن مُجرمٍ غاصِبٍ إلى مُتخَمٍ قاتلِ ومِن مفترٍ سافلٍ إلى مُدَّعٍ فاشِلِ ومِن زائِلٍ زائِلٍ إلى زائِلٍ زائِلِ”.

هكذا يصرخ سميح في أخيه، صرخة الفقد، صرخة الاطناب دون استرسال في المعنى، صرخة الموت اللعين والفقد المبين، يرتعش صوت سميح وكأنه اختلط بالدمع المحبوس، سميح يهمس في أذن صديقه ليؤكد له ما كان يعتقد، الكل زائلًا وباطلًا، ولن يبقى شيًء غير إنك أخي وإني أخاك، “وماذا وَجَدْتَ هُناكْ سِوى مَا سِوايَ وماذا وَجّدْتَ سِوى مَا سِواكْ؟ أَخي دَعْكَ مِن هذه المسألة، تُحِبُّ أخي.. وأُحِبُّ أَخاكْ وأَنتَ رَحَلْتَ. رَحَلْتَ.”.

“ما الذي يَتَبقى لهَا.. غيرُ سَكينةِ الذَّبح, غيرُ انتظارِ النهاية.”، قالها أمل دنقل في قصيدة “الطيور”، وقالها سميح في رثاء درويش، متحدثًا عن العصافير والأحلام، ” تَطيرُ على شَرَكِ الماءِ والنَّار. والنَّارِ والماءِ. مَا مِن مكانٍ تحطُّ عليهِ.. سوى المذبحة”.

مِنَ البَدْوِ كُنّا وصِرنا

يبحث سميح عن إجابات جديدة، لأسئلة قديمة، “وَلا يَستَقيمُ السّؤالُ لكي يستَقيمَ الجوابُ. وها نحنُ نَمكُثُ في حَسْرَةٍ بعدَ حَسْرَهْ وكُلُّ غَريبٍ يعيشُ على ألفِ حَيْرَهْ”، يدمج التاريخ، حاضره وماضيه في زمنًا واحد، وقصيدة واحدة، من قبيلة ذبيان وعبس، إلى ضحايا الخرافات ونبوخذ نصر وأيتام هتلر.

“عجائِزُ زوربا” هو اللقب الذي أطلقه سميح على كل من يحاول التشكيك في صداقته بدرويش، وكل من ينتحل فعل الصداقة مع درويش بعد رحيله، يقف سميح حائرًا، لا يحب الألقاب المكتسبة لصداقتهم، كلقب شطري البرتقالة الفلسطينية، هو أخوه وهذا كل ما في الأمر، بعيدًا عن التعقيدات والخلافات وعجائز زوربا، “ألا إنَّها يا أخي الجاهلية وَلا جلفَ مِنَّا يُطيقُ سَماعَ الوصية وَأنتَ الوَصيَّةُ. أنتَ الوَصيَّةُ”.

“سَتذكُرُ. لَو قَدَّرَ الله أنْ تَذكُرا وتَذكُرُ لَو شِئْتَ أنْ تَذكُرا”، هي لعبة الدوائر الكهربية، كما كان يفعلها درويش في قصائده، كما في “لاعب النرد”، “لا دور لي في القصيدة إلاَّ إذا انقطع الوحيُ، والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ”، هكذا ينساب الفعل خارج قدرتهم ليعود إليهم في المقطع التالي، وكأنها دائرة كهربائية.

البداية سويًا، رجوع للماضي، وحنين وأسئلة عن إلى أين أخدنا ما فعلنا أمس في الماضي البعيد القريب، يتذكر سميح برعشة الذكريات، وحزن الفراق، “قرأْنا امرأَ القَيسِ في هاجِسِ الموتِ، نحنُ قرأْنا مَعاً حُزنَ لوركا وَلاميّةَ الشّنفري وسُخطَ نيرودا وسِحرَ أراغون ومُعجزَةَ المتنبّي، قرأْنا مَعاً خَوفَ ناظم حِكمَت”.

السلام المرجو، والحرب الهائمة، بين السلام والحرب عاش سميح ودرويش، متهمان بالتخاذل تارة، والخيانة تارة أخرى، ولكنهم في وسط كل ذلك، لم يتوقفوا عن دعم فكرة السلام، فكرة إن الحرب لن تحدث ولن تفيد بشيء، كان الشعر رسالة حب، ورفض للكره بكل أشكاله، “وتعلَمُ أنَّا كَرِهْنا الكراهيّةَ الشاحبة كَرِهْنا الغُزاةَ الطُّغاةَ، وَلا.. ما كَرِهْنا اليهودَ ولا الإنجليزَ، وَلا أيَّ شَعبٍ عَدُوٍ.. ولا أيَّ شَعبٍ صديقٍ، كَرِهْنا زبانيةَ الدولِ الكاذبة”.

ربما كان سؤال سميح في النص هو “سؤال الآخرين ولا جواب له”، عندما سئل “لماذا تموتُ إذاً. ولماذا أعيشُ إذاً. ولماذا نموتُ. نعيشُ. نموتُ.”، وتستمر الأسئلة الوجودية في القصيدة، ” ومَا كُلُّ هذا الدَّمار وهذا السقوط وهذا العذاب ومَا كلُّ هذا؟ وهذا؟ وهذا؟”. 

في النهاية، لم يتبقى شيء، كل ما كنا نتعارك ونتجاذب من أجله، أصبح لا قيمة له بعد رحيلك، بعد الموت، فالموت عند سميح يحيي الجمال، ويقتل ما دون ذلك، “لأنّا صديقانِ في الأرضِ والشّعبِ والعُمرِ والشِّعرِ، نحنُ صريحانِ في الحبِّ والموتِ.. يوماً غَضِبْتُ عليكَ.. ويوماً غَضِبْتَ عَلَيّْ وَمَا كانَ شَيءٌ لدَيكَ. وَمَا كانَ شَيءٌ لَدَيّْ سِوَى أنّنا مِن تُرابٍ عَصِيّ وَدَمْعٍ سَخيّْ”.

ويوماً كَتَبْتُ إليكَ. ويوماً كَتَبْتَ إليّْ

“أُسميكَ نرجسةً حَولَ قلبي”..

وقلبُكَ أرضي وأهلي وشعبي

وقلبُكَ.. قلبي..

أحن إلى أمي، ترك درويش سميح وحيدًا يرى دمع أمه حورية، لأنه كما قال سلفًا يخجل من دمع أمه، لا يعرف ماذا يقول سميح لأم درويش، ” وَتَفْتَحُ كَفَّينِ واهِنَتَينِ موبِّخَتَينِ. وَتَسأَلُ صارخةً دُونَ صَوتٍ. وتسألُ أينَ أَخوكَ؟ أَجِبْ. لا تُخبِّئ عَلَيَّ. أجِبْ أينَ محمود؟ أينَ أخوكَ؟”، بعد عدة إجابات غير منطقية وشاعرية، يصارحها ويصارح نفسه بالخبر اليقين، “أخي راحَ يا أُمَّنا ليَرَى بارِئَهْ ..أخي راحَ يا أُمَّنا والتقى بارِئَهْ..”.

حالة سريالية

في عام 2009، كان سميح في مواجهة الوحدة، الغلبة لمن رحلوا والكثرة لهم، لم يبقى غيره هنا، “لبقائي على كومةٍ من ركامِ البقاءِ، وحيداً.. وحيدْ”، في هذا العام قبل رحيله بـــ 5 أعوام، كان سميح مدعوا في حفلة على ذكرى رحيل معين بسيسو، والدعوة مقدمة من مؤسسة “توفيق زيادة”، والحفلة مقامة في مركز يحمل اسم “محمود درويش”، أصيب بحالة سريالية، ماذا يفعل هنا وحيدًا، يلقي سميح قصيدة “مرثاة من برج الثور”، يرثي ويناجي فيها معين بسيسو وفدوى طوقان وراشد حسين وتوفيق زيادة ومحمود درويش وغيرهم، كما رثاهم كلهم في قصيدة رثاء درويش أيضًا.

ويقولونَ.. ماتْ

وأخي ليسَ للموتِ.. محمودُنا.. للحياةْ..

يقف سميح على تابوت درويش ليضيف إلى فضاء الآية الكريمة “ما تدري نفس بأي أرض تموت”، “وما يدري جثمان بأي أرضًا يدفن”، يرحل درويش في 9 من شهر أغسطس 2008، ليرحل سميح بعدها بـــ 6 أعوام وعشرة أيام، ليرحل في نفس الشهر الذي مات فيه رفيقه، وفي نفس الشهر الذي اغتيل فيه ناجي العلي، رحل سميح بعد أن أكد لدرويش إنه قادم قريبا إليه، “وَلولا اعتصامي بحبلٍ مِن الله يدنو سريعاً. ولكنْ ببطءٍ”، وفي نهاية القصيدة يقول سميح كلمة هي خلاصة النص الأخوي، بعيدًا عن كل المعتقدات والأيدولوجيات والأفكار، يناجي درويش بحزن الرفيق وصدمة الصديق، “خُذني مَعَكْ وخُذني مَعَكْ خُذني مَعَكْ..”.

ربما يكون الكلام كان أكثر عن درويش، وربما كان الكلام مناصفة بينهم، ولكن الأكيد إن سميح رثى نفسه وهو يرثي درويش، ولعل درويش الآن يلقي قصيدة ترحيب بسميح في العالم الآخر، وربما علينا أن ننهي الحديث ونرثي سميح ورفيقه وكل رفقائهم الآخرين، وليكن كلام سميح هو آخر كلامنا، وعليك السلام وعلى من أحبوك وأحببتهم.

إنّهم ههُنا ينشدون

والقوافي حياةْ

ولدى ربِّهم يُرزقون

والأغاني صلاةُ الصلاةْ

لا تقولوا قَضَوْا ومَضَوْا

إنّهم بيننا. معنا. ولنا. ههُنا

في تضاريسنا وقواميسنا خالدون

ولدى ربِّهم يُرزَقون

ولدى شعبهم يُرزَقون

إنَّهم.. خالدون

خالدون

خالدون..

نشر في موقع تقرير 12/ 2014